العدد 55 - بورتريه
 

محمود الريماوي

يعتبر فايز الطراونة (59 عاماً) من جيل التحق مبكراً بالعمل العام، وأمضى فيه زهرة شبابه كما سنوات النضج. وقد شاءت المقادير أن يشهد من موقعه الرسمي تحديات جسيمة وتحولات كبيرة، منها حرب عاصفة الصحراء واستعادة الكويت، وتدهور العلاقات الأميركية الأردنية لأول مرة في تاريخ هذه العلاقات، والمشاركة في المفاوضات الأردنية الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد، وترؤس الحكومة في الأشهر الأخيرة من حياة الراحل الحسين ومواكبة انتقال الحكم إلى وريثه الملك عبدالله الثاني، واستمرار حكومته في العهد الجديد لبضعة أسابيع. كما واكب داخلياً مرحلة استئناف الحياة الديمقراطية وما حفلت بها من تطورات وصولاً إلى تشكيل «التيار الوطني» الذي يعتبر أحد أبرز مؤسسيه.

مع ذلك يبدو دولة الطراونة في مقتبل الشباب، وإن شكا في الآونة الأخيرة من عوارض صحية خفيفة.

في حقبة الشباب الأولى أنس الوالد أحمد الطراونة في الابن فايز ميلاً مبكراً إلى السياسة، فنصحه الأب بدراسة القانون، وذلك للصلة القوية بين عالم السياسة والمرجعية القانونية والدستورية. غير أن الابن اختار دراسة الاقتصاد نتيجة استشعاره للصلة الناشئة والمتعاظمة بين عالمي السياسة والاقتصاد. فكان أن أوصاه الوالد بعد احترام خياره، أن يحتفظ بالدستور الأردني «معه في جيبه وفي حله وترحاله»، وهكذا كان.

يستذكر فايز الطراونة أن بيتهم العائلي في عمان كان أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، ملتقى لرجال الدولة والساسة من مختلف التيارات، وأن فضول الفتى آنذاك كان قوياً للتنصت على ما يتردد من أحاديث ولو اضطره ذلك للاختباء «تحت الطاولة». وقد تنامى هذا الميل السياسي لديه دون أن يدفعه للانتماء للحياة الحزبية، ولأسباب يتعلق بعضها بتكوينه الذهني وبعضها الآخر يتصل بكونه ابن رجل دولة بارز.وقد قادته الظروف للانخراط متأخراً في عالم رجال الأعمال، حيث يتولى حالياً رئاسة مجالس إدارة ثلاث شركات استثمارية كبيرة.يوضح هذا الأمر بقوله إنه لا يقوم بمسؤوليات تنفيذية في هذه المؤسسات، وأن إقباله على الالتحاق بها مرده كونه أمضى حياته المهنية موظفاً، وأن حاجته للعمل قائمة.على أن نشاطه في الحقل الاقتصادي لم يحد من انشغاله بالعمل السياسي العام سواء في موقعه عضواً في مجلس الأعيان، أو بدوام اتصاله بجلالة الملك، وبرئيس الحكومة أياً كان الرئيس، أو بعلاقاته بالمجتمع السياسي عموماً. بما يتصل بالاقتصاد أيضاً، فقد عمل في التشريفات الملكية بعد نيله شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، لكنه تمنى على الراحل الحسين أن يتولى مسؤولية اقتصادية، فكان أن أسس المكتب الاقتصادي لرئاسة الوزراء في حكومة الراحل عبدالحميد شرف.

يستذكر الطراونة أنه حين تولى منصب السفير في واشنطن في العام 1992، فقد واجه ظرفاً عصيباً، إذ كان استقبال مسؤولي الخارجية وأعضاء الكونغرس له شديد الفتور، وذلك على خلفية الموقف الأردني من حرب الخليج وتأويلات هذا الموقف. ومن حسن الطالع أنه جرى تأخير تقديم أوراق اعتماده للرئيس بضعة أشهر دون أن يكون التأخير مقصودا بالضرورة، إذ يجري عادة تجميع نحو 12 سفيراً ليقدموا أوراق اعتمادهم في البيت الأبيض خلال يوم واحد.

وكان الرئيس هو بيل كلينتون الذي مضت عليه ثلاثة أشهر فقط في المكتب البيضاوي. في اللقاء العائلي حسب البروتوكول الأميركي، فاجأ الرئيس السفير الأردني ليس فقط بالاستقبال الدافىء، بل كذلك حين أبلغ سفير المملكة الجديد، أن الشخصية السياسية التي تستأثر باهتمامه وتحوز على احترامه هي شخصية الملك الراحل الحسين. في تلك اللحظة ذابت الحواجز التي صادفها السفير الطراونة في واشنطن، والتقط الخيط بحسه الدبلوماسي والسياسي، من تنويه الرئيس العالي والاستثنائي بالراحل الحسين، فدعا الرئيس لترتيب قمة أميركية - أردنية والذي استجاب على الفور، ولم تمض أشهر حتى كان الراحل الحسين يلبي دعوة الرئيس كلينتون لزيارة رسمية إلى واشنطن. فاستعادت العلاقات زخمها، وبخاصة مع التقدم في مباحثات السلام التي بدأت في واشنطن برعاية أميركية قبل أن تنتقل إلى المنطقة.

حول هذا الأمر يستذكر الطراونة أن التوجيهات الملكية كانت تقضي بمنح الأولوية في تقدم المفاوضات إلى الجانب الفلسطيني، بحيث لا يسبقه الوفد الأردني في الإنجاز. وكانت مفاوضات جرت خلال بضعة أيام في الكوردور (الممر) إلى أن تم حمل الوفد الإسرائيلي على القبول بالتفاوض مع وفد فلسطيني مستقل.

يشدد الطراونة على أن المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية جاءت متوازنة وشطبت أية ادعاءات بملكية أفراد لأراض أردنية، فيما ألحقت قطعة أرض في الغمر ببقية الأراضي المستعادة التي تخضع للقوانين الأردنية، والتي يستخدمها الإسرائيليون لخمسة وعشرين عاماً (مضى منها أكثر من نصفها). ويردف أن تولي اليمين الإسرائيلي الحكم واغتيال اسحق رابين، قلب المعادلات وحال دون استكمال حلقات التسوية.

في دارته في عبدون المهداة من الراحل الحسين والتي انتقل إليها من شقة في أم أذينة، يستذكر الطراونة أن انتقال كامل السلطات الدستورية إلى الملك عبدالله الثاني بعد رحيل الحسين، استغرق ثلاث ساعات وسبع عشرة دقيقة فقط. يختزن في ذاكرته هذا الرقم بدقة لأهميته التاريخية أولاً، ولأن أسئلة وجهت له من بعض قادة دول العالم بهذا الخصوص ومنهم ملكة هولندا التي عقبت بأن هذا الانتقال يتطلب في بلادها خمس ساعات على الأقل.

أما أكثر المواقف حساسية في ذلك الظرف، فقد تمثلت لدى عودة الملك الأخيرة، وهو يشكو، رحمه الله، من إعياء صحي يحول بينه وبين أداء مسؤولياته، مع فروغ موقع نائب الملك لدى عودة الملك إلى البلاد، عند ذلك تم التقيد بالدستور بتولي مجلس الوزراء برئاسة الطراونة هذه المسؤولية الجليلة.

عمل الطراونة وزيراً للصناعة والتجارة مرتين، ووزيراً للخارجية ورئيساً للديوان الملكي قبل أن يتقلد رئاسة الوزراء، ولا تبدو عليه هذه الأيام سيماء التقاعد أو الاعتزال. خلاف ذلك يوحي توقد ذهنه ومزاجه النفسي العالي أنه على جهوزية تامة لمباشرة أية مهمة جديدة.

وقد انشغل في بحر العام الجاري بإنشاء «التيار الوطني» مع المهندس عبدالهادي المجالي ونحو مائة من الناشطين. وتردد أنه انسحب من «العملية» قبل أن تتبلور، وهو ما يوضحه بالقول إن المسارعة بإنشاء كتلة نيابية للتيار قبل أن ينضج التيار خارج المجلس، هو ما حمله على الانسحاب لتعارض ذلك مع قناعاته، ومع الخطة المتفق عليها لبناء التيار. مع تشديده على صلاته الطيبة مع المؤسسين وإيمانه بأهمية بلورة تيار وسطي فاعل.

مع ذلك «يشفق» الطراونة على الحياة الحزبية عموماً في البلاد، حيث يبدو أن الزمن بتحولاته وبتأثيره على الناس والمزاج العام لم يعد زمن أحزاب..

فايز الطراونة: يحتفظ بالدستور “في جيبه"
 
14-Dec-2008
 
العدد 55