العدد 55 - اقليمي
 

تحسين يقين

القدس- مرّ وقت طويل نسبيا لم ينشط فيه المستوطنون اليهود في اعتداءاتهم ضد المواطنين في الضفة الغربية، وحتى في ذروة الانتفاضة الثانية، لم يندفع المستوطنون في نشاطاتهم المادية والاحتجاجية كما هم عليه اليوم، بل وحتى في مرحلة إخلاء مستوطنات غزة، لم يصابوا بمثل الهستيريا التي طغت على السطح السياسي والميداني على أرض الضفة الغربية من الخليل جنوباً حتى جنين شمالاً.

فلا يمكن أن تكون المسألة عفو الخاطر، أو إرجاعها لنزاع حول بيت الرجبي في الخليل، أو مجرد ردود فعل مستوطنين يؤرقهم قطف القرويين لمحاصيلهم.

تتبع الهجمة الاستيطانية يكشف أنه يراد لهذه الأحداث أن تؤول إلى شيء ما، ربما سياسي يود أن يقطف ثماره الساسة في إسرائيل، وربما العسكر، وهم الحكام الفعليون لدولة الاحتلال، بشكل خاص، في ظل ضعف الساسة بعد الدعوة إلى انتخابات مبكرة.

منذ موسم قطف الزيتون وحتى قبل ذلك، والمستوطنون اليهود يزدادون شراسة، وما شجعهم على ذلك هو خوف الساسة أن يؤثر قمعهم للمستوطنين على نتيجة الانتخابات. وهذا ما يقوله المحللون الإسرائيليون، ويتفق معهم فيه المحللون الفلسطينيون!.

بالنظر إلى أحداث مماثلة في السابق، في الضفة الغربية أو في إسرائيل كما حدث في مدينة عكا، يتبين أن هناك مبالغة في تأثير عامل الانتخابات على مواقف الساسة والعسكر، ما يعني أن هناك تحت السطح ما يتجاوز الآني من الأمور والنزاعات.

شهران متتابعان طغت فيهما أخبار المستوطنين على ما عداها، ما يوحي أن النخب الحاكمة تقف وراء هذه الأحداث لاستغلالها، كل بطريقته، أكان ذلك للوصول إلى الحكم، كما هو ظاهر أو للحسم في إحدى قضايا الحل النهائي، وهي قضية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.

ورغم استنكار أوساط النخبة الحاكمة في السياسة والأمن لإرهاب المستوطنين اليهود ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، وأشجارهم، إلا أنهم لم يصرحوا بما هو كامن في مخططاتهم الاستراتيجية.

إن استقصاء ردود الفعل الإعلامية والسياسية، يظهر أن الاتجاه العام لتلك الردود هو استنكار الهجمة الإرهابية. الكاتب في «هآرتس» يسرائيل هارئيل يرى أن «عربدة المستوطنين اليهود تشكل خطراً على إسرائيل أيضاً»، أما أرييلا رينغل هوفمان فقد انتقدت المستوطنين مبينة تاريخ هذا الإرهاب ومحذرة من مستقبل حدوث نزاع بين الإرهابيين اليهود والجيش الإسرائيلي، إضافة إلى افتتاحيات الصحف تحت اسم أسرة التحرير، والتي هاجمت بشدة إرهاب المستوطنين، باتجاه المطالبة بإخلائهم.

الكاتب في صحيفة «معاريف» بن كاسيت، ختم مقاله الذي عنونه بـ«هذا الوحش يجب أن نوقفه الآن» بالحديث عن «شبيبة محرضة مجنونة تفهم أن أغلبية الجمهور الإسرائيلي سلمت بالحقيقة في أنه سيتعين على إسرائيل الانفصال عن الضفة الغربية، فقررت منع ذلك بكل ثمن».

ليس هنا كبير مسافة بين مواقف السياسيين والكتاب، فمعظمهم ينطلقون من الأساسيات الصهيونية التي لا تعيد النظر بالاستيطان، لكنها تسعى الى «ترشيده» تحت عنوان إعادة الانتشار الاستيطاني، أسوة بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي بعد البدء بتنفيذ اتفاقية أوسلو، الذي لم يبلغ نهايته الطبيعية كما في الاتفاقية، لأسباب إسرائيلية استراتيجية: توسعية وعنصرية، تتعلق بالقدس،الاستيطان والحدود, وشكل الدولة الفلسطينية ومضمونها!.

في هذا السياق يمكن قراءة ما ذكره رئيس فريق المفاوضين الفلسطينيين أحمد قريع، حول خلافه مع المفاوضين الإسرائيليين، وما عرضه الإسرائيليون من نسب مئوية من الضفة الغربية، تنوي إسرائيل ضمها، التي اعتبرها المفاوض الفلسطيني تقطع الأرض وتهود مدينة القدس.

إسرائيلياً، يمكن تحليل الأحداث الأخيرة من باب توظيف سياسي وعسكري، ذكي، مراوغ ومخادع، يستطيع فيه الإسرائيليون ذر الرماد في الأعين، باعتبار أنهم يريدون أن تتكرر الأحداث مستقبلاً باتجاه منح المفاوضين الإسرائيليين والنخبة الحاكمة من الساسة والعسكر مبرراً لاتخاذ قرارات هامة، تتعلق بإخلاء البلدة القديمة في الخليل من الـ400 مستوطن، هم طلاب وليسوا مقيمين، والاتفاق على إخلاء معين من أحياء المسلمين في البلدة القديمة بالقدس، وإخلاء مستوطنات صغيرة بعيدة عن التجمعات الاستيطانية الكبرى، في الوقت الذي سيكرس فيه الاحتلال تقسيم الضفة الغربية بين الفلسطينيين والمستوطنين، وسيتجلى ذلك بشكل خاص في تقسيم محيط المدن، كما هو الحال في عدم إخلاء مستوطنات الخليل ومستوطنات القدس ونابلس.. بهذا تحسم إسرائيل قضية هامة من قضايا الحل النهائي على حساب الأرض الفلسطينية، وهذا هو الأهم. أما التضحية بالاستيطان اليهودي داخل المدن فسيتم تفهمه وتسويقه على أنه إخلاء للاستيطان، ولربما يقود هذا الأمر رئيس الليكود بنيامين نتنياهو-في حال فوزه-، والذي بطريقة أو بأخرى، سيعيد الأمور إلى ما عرضه أرئيل شارون: دولة فلسطينية على 52 في المئة من الضفة الغربية. يعني ذلك تقسيم الضفة الغربية بين الفلسطينيين واليهود، وليس تقسيم فلسطين التاريخية الكلاسيكي الذي يريده أكثرية الإسرائيليين أن يصير مجرد تراث وتاريخ ليس أكثر، مقوضين أي مجال يمكن أن تنطبق فيه قرارات الأمم المتحدة، من خلال سياسة الأمر الواقع التي لم تتقادم بعد.

مثال الخليل

منذ اللحظة الأولى التي اندلعت فيها اعتداءات وهجمات المستوطنين ضد أبناء البلدة القديمة من الخليل، بات من الواضح أن هناك مخططاً ينفذه المستوطنون بناء على توجيهات قادتهم، وهو  شديد الخطورة وينوي المستوطنون تنفيذه خلال الأسابيع المقبلة ويعد من أخطرها على الإطلاق، وهو فصل مدينة الخليل وتقسيمها إلى (مدينة عربية وأخرى يهودية) وبناء جدار عازل يفصل بينهما.

المراقب للوضع الميداني والمتجول لأحياء البلدة القديمة التي أصبحت كافة مبانيها تحت مرمى النيران الإسرائيلية، وعرضة لاعتداءات المستوطنين المتطرفين، الذين لا يألون جهداً في استفزاز العرب القاطنين قرب الحرم الإبراهيمي وقرب مستوطنة كريات أربع المقامة على أراضي المواطنين جنوب مدينة الخليل، ليشاهد بأم عينه بأن هذه الأحياء ستكون ضمن مخطط إسرائيلي: أحياء يهودية يتم بموجبها تهجير السكان بذريعة أن المستوطنين يحتاجون لحماية الجيش.

يرى المستوطنون أنه منذ إعلان اتفاقية شمغار عقب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف العام 1995 التي تم بموجبها تقسيم المدينة إلى قسمين (H1) والخاضعة للسيطرة الفلسطينية غير الكاملة و(H2) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الفعلية التي تشمل البلدة القديمة من الخليل ومن ضمنها الحرم الإبراهيمي الشريف، بأن هذه الاتفاقية لم تأت من فراغ أو على سبيل الصدف وإنما لتكريس واقع جديد في مدينة الخليل، يستهدف تفريغ البلدة القديمة ذات الأغلبية العربية والأقلية اليهودية (400 مستوطن)، من سكانها العرب لاستدعاء المزيد من اليهود المهاجرين لإسرائيل لتوطينهم في المدينة، لفرض واقع جديد على المدينة كذلك بفصلها بين العرب واليهود.

فمنذ اللحظة التي احتل فيها المستوطنون تحت حماية قوات الاحتلال مبنى عائلة الرجبي قبل ما يقارب العامين، بات من الواضح أن هذه الشرارة بداية لواقع خطير في المدينة يبدأ باحتلال المبنى المذكور، وتبدأ حلقات مسلسل الاعتداءات والهجمات ضد أبناء المدينة في البلدة القديمة والمنازل القريبة من المستوطنات الإسرائيلية، لينتهي بإقامة جدار عازل يفصل المدينة إلى قسم عربي وآخر يهودي.

ويراهن المستوطنون على هجرة سكان البلدة القديمة منازلهم، نظراً لتزايد اعتداءات المستوطنين إلى القسم الفلسطيني منها، وهذا ما شهدته المدينة خلال انتفاضة الأقصى حيث أغلقت العديد من المحال التجارية أبوابها ونقل التجار محالهم إلى مناطق أخرى منها، والأمر كذلك بالنسبة للسكان أيضاً.

 ويستغل المستوطنون الذين يعملون بشكل منظم كون مبنى الرجبي الذي تم إخلاؤه من قبل قوات الاحتلال مؤخراً، لم يسلم إلى أصحابه وإنما بقي ثكنة عسكرية تحتله قوات الاحتلال بأمر من قيادتهم السياسية.

ذلك هو سقف طموحات المستوطنين اليهود في الخليل وغيرها من المدن، لكن ما يحاك سياسياً هو تقسيم أكبر للأرضي في الضفة الغربية، حيث يسهل على السياسي التضحية بالرموز في سبيل تطبيق خططه الاستراتيجية.

وربما لأجل ذلك وجد الاستيطان في البلدة القديمة في الخليل والقدس، ليشكل إخلاؤهما تسوية سياسية تثبت إسرائيل أقدامها في محيط المدن، وبذا يكون تقسيم الضفة الغربية تقسيماً عملياً لا شكلياً يتخذ الطابع الرمزي-الديني فقط.

من تقسيم فلسطين إلى تقسيم الضفة والمدن: الخليل مثالاً
 
14-Dec-2008
 
العدد 55