العدد 55 - ثقافي
 

محمود الزواوي

تطور دور الإعلام بشكل ملفت للنظر خلال العقود الأخيرة، تمشّياً مع مقتضيات الحياة وتطور العصر، وأصبحت وسائل الإعلام تشكل سلطة رابعة، وتمارس نفوذاً في كثير من المجتمعات، وبخاصة في المجتمعات الديمقراطية. حتى إن التحقيقات الصحفية المثابرة لوسائل الإعلام الأميركية أسهمت في إسقاط رئيس أقوى دولة في العالم، هو الرئيس ريتشارد نيكسون.

يتميز التلفزيون عن وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة، في تقديم الصوت والصورة، وفي الدور الذي يؤديه في التغطية الإخبارية الآنية للأحداث. وقد أسهمت في تسهيل ذلك تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية واستخدام الحاسوب، إضافة إلى سرعة انتقال الأجهزة والمعدات خفيفة الوزن المرتبطة بالتغطية التلفزيونية، وبخاصة أطباق الأقمار الاصطناعية والكاميرات المتقدمة والهواتف المحمولة، ما سهّل على الناس مشاهدة ما يجري في أي بقعة في العالم، بما في ذلك مناطق النزاعات، كما كان الحال في الحربين على أفغانستان والعراق.

وتؤدي وسائل الإعلام دوراً متزايداً في تحديد الأجندة السياسية، عبر التأثير في الرأي العام وفي صانعي القرارات السياسية، وبالتالي في القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية لبعض الدول أحياناً. يمكن هنا الاستشهاد بتأثير التغطية الإخبارية التلفزيونية في نظرة الشعب الأميركي تجاه الحروب، بل وتغيُّر تلك النظرة كلياً منذ ستينيات القرن الماضي.

كان الشعب الأميركي حتى الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات، ينظر إلى الاشتراك في الحرب بوصفها واجباً تمليه المشاعر الوطنية للدفاع عن شرف الوطن ومصالحه، وعن مُثل الحرية والديمقراطية. هذه النظرة كانت أمراً مُسلّماً به في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكانت الأسرة الأميركية ترسل ابنها بفخر واعتزاز ليحارب في أوروبا ضد الألمان والإيطاليين، أو في آسيا ليحارب ضد اليابانيين دفاعاً عن الوطن، وتستقبل الولايات المتحدة أبناءها العائدين من الحرب استقبالَ الأبطال. وكان بعض أبطال الحروب يُستقبلون بالاستعراضات الشعبية في نيويورك وغيرها من المدن الأميركية.

لم يكن التهرب من الخدمة العسكرية أمراً مقبولاً في تلك الأيام. ولم يفكر أبٌ في إرسال ابنه إلى كندا أو المكسيك للتهرب من الخدمة في الحرب، لأن ذلك كان يجلب العار للأسرة.

إلا أن التغطية الإخبارية التلفزيونية غير المسبوقة، أحدثت ثورة في مفاهيم الحرب عند الأميركيين خلال الحرب الفيتنامية في الستينيات، وحوّلت الحرب من واجب وطني مقدس غير قابل للجدل، ومن فكرة بريئة وحالمة وحدث درامي يقع على بعد آلاف الأميال عن الوطن، إلى حدث آني يُنقل إلى غرف الجلوس وغرف النوم في المنازل وإلى المكاتب والأماكن العامة في سائر أنحاء الولايات المتحدة، بما فيه من قسوة وقتل وسفك دماء وواقعية مؤلمة ومآسٍ إنسانية على الطبيعة. ولم يلق المحاربون الأميركيون العائدون من فيتنام الاستقبالات الشعبية الحارة التي لقيها رفاقهم الذين اشتركوا في حروب سابقة، بل جلبوا معهم مشاكل تراوحت بين الأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية وانتشار البطالة بين الجنود العائدين.

لقد أفقد التلفزيون الحرب براءتها ورومانسيتها، وتعامل مع الحرب الفيتنامية بأسلوب درامي واقعي لم تعرفه أميركا من قبل، وأفرز معارضة شعبية للحرب رافقها التهرب من الخدمة العسكرية على نطاق واسع للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة ومعارضة قطاع واسع من المفكرين والصحفيين والسياسيين والفنانين لتلك الحرب. لقد تغير المجتمع الأميركي إلى غير رجعة بعد الحرب الفيتنامية التي لم تلتئم جراحها كليا حتى هذه الأيام، وقد أسهمت التغطية التلفزيونية بذلك إلى حد كبير. وكانت حرب فيتنام أول حرب تتغلغل فيها أجهزة التلفزيون في منازل الأميركيين وتصبح جزءا أساسيا من حياتهم.

تحوُّل نظرة الأميركيين نحو الحرب يمكن ملاحظته في الأفلام السينمائية التي قدمتها هوليوود. وباستعراض الأفلام الأميركية التي تناولت الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، يجد المرء أن جميع هذه الأفلام تنسجم مع موقف الحكومة الأميركية والشعب الأميركي من هذه الحروب. ولم يكن أي مخرج أو منتج أو كاتب سينمائي في هوليوود، يجرؤ أو يفكر في تقديم فيلم يخالف هذا الموقف أو يشكك في نظرة الأميركيين الجماعية نحو الحروب، والواجبات الوطنية المرتبطة بها.

لكن الوضع تغير كلياً في معالجة السينما الأميركية للحربين في فيتنام والعراق. فقد كانت جميع الأفلام الأميركية التي تناولت حرب فيتنام، باستثناء فيلم واحد فقط، معارِضة لتلك الحرب بشكل أو بآخر. من أبرز هذه الأفلام: «العودة إلى الوطن» (1978)، و«اذهب وقل ذلك للإسبارطيين» (1978)، و«فصيلة» (1986)، و«الرصاصة القاتلة» (1987)، و«إصابات الحرب» (1989). وقد فازت هذه الأفلام بعشرات الجوائز السينمائية وتجاوب معها الجمهور، وحققت شعبية واسعة على شباك التذاكر.

الفيلم الأميركي الوحيد الذي شذّ عن القاعدة وقدّم صورة إيجابية للدور الأميركي في حرب فيتنام هو «القبعات الخضراء» (1968) الذي قام بإخراجه راي كيلوج بالاشتراك مع الممثل جون وين الذي قام ببطولة الفيلم، وهو فنان كان معروفا بميوله السياسية اليمينية. وقد فشل هذا الفيلم فنياً وتجارياً.

كما قدّمت هوليوود خلال العامين الماضيين أكثر من عشرة أفلام تتعلق بالحرب على العراق، أو بتداعيات هذه الحرب في المجتمع الأميركي. معظم هذه الأفلام مبنيٌّ على أحداث حقيقية مأساوية. والقاسم المشترك بينها هو إدانتها للحرب، ولسياسة الرئيس بوش في العراق. ويمكن القول إن الحرب في العراق أول حرب تخوضها الولايات المتحدة وتقابَل بإدانة جماعية في أفلام هوليوود.

من أبرز هذه الأفلام: «جريس اختفت» (2007)، و«النسخة المصححة» (2007)، و«في وادي إيلاه» (2007)، و«توقف – خسارة» (2008)، و«معركة الحديثة» (2008)، والفيلمان الوثائقيان «العراق مشرذم» (2006)، و«لا نهاية قريبة» (2007). ومع أن معظم هذه الأفلام لم يلق تجاوباً جماهيرياً كبيراً في دور السينما، إلا أن عدداً منها عُرض في مهرجانات سينمائية وفاز بعضها بجوائز.

من الملاحَظ أن معظم الأفلام الأميركية المتعلقة بالحرب الفيتنامية أُنتجت بعد انسحاب القوات الأميركية من فيتنام، وفي معظم الأحيان بعد مضي سنوات عدّة على انتهاء تلك الحرب، في حين أن جميع الأفلام المتعلقة بالحرب على العراق أُنتجت أثناء احتلال القوات الأميركية للعراق وخلال سنوات قليلة من اندلاع تلك الحرب.

أثر الشاشة الصغيرة على نظرة الأميركيين للحرب: التلفزيون نزع عن الحرب براءتها ورومانسيتها
 
14-Dec-2008
 
العدد 55