العدد 54 - أردني
 

في ظل الأزمة المالية العالمية والأزمة النفطية شبه الدائمة في البلاد، تتجه الأنظار الى قطاع النقل العام باعتباره من القطاعات الحيوية لضبط الإنفاق على الطاقة في البلاد، فضلاً عن الجوانب المتعلقة به: التلوث، الازدحام المروري، استهلاك الطرق، تبديد وقت الجمهور. قطاع النقل لم يلق تفعيلاً يذكر من حكومة الذهبي كما من حكومات متعاقبة، وما زالت مشكلاته ومعها مشكلات الجمهور تتفاقم.

لينا شبيب

في 18 كانون الثاني من العام 2003 كتب إيان روبرتس في صحيفة «الغارديان» البريطانية مقالاً بعنوان «حرب السيارات»، في إسقاط ذكي عن فيلم جورج لوكاس «حرب النجوم». وقد تزامن نشر هذا المقال مع بداية الحرب الأخيرة على العراق، وفيه بين أن الحرب ضد العراق لا يمكن تجنبها، لأنها مقررة من قبل مخططي أميركا الشمالية، منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، فمهندسو هذه الحرب ليسوا عسكريين بل هم من مخططي المدن، والحرب حتمية ليس بسبب أسلحة الدمار الشامل، كما يزعم السياسيون اليمينيون، وليس بسبب النزعة الإمبريالية كما يرى السياسيون اليساريون، بل إن سبب هذه الحرب، وربما حروب أخرى ستليها، هو الاعتماد على السيارة.

الولايات المتحدة الأميركية أكثر دولة في العالم يعتمد سكانها على استخدام السيارة الخاصة، لتوافر ملايين الكيلومترات من شبكات الطرق السريعة، التي تربط مدنها وولاياتها ولعدم توافر وسائل نقل عام كافية.

في العام 1946 قام الأميركيون بنحو 23.4 بليون رحلة في وسائط النقل العام، لكن هذا العدد تناقص بشكل كبير ليصل إلى 10.3 بليون رحلة خلال العام 2007. ويحق لنا التساؤل هنا عن سبب هذا الانحدار الهائل في عدد الرحلات في النقل العام، في الوقت الذي يعرف فيه كثيرون أن لوبيات الطرق والنفط وصناعة السيارات والإطارات والإسمنت قد تكاتفوا وأوقعوا الضرر بأميركا والعالم، باسم حرية الاقتصاد وتحقيق الأرباح، حيث حولوا ولايات أميركا إلى شبكة ضخمة من الطرق السريعة التي تحمل ملايين الناس كل يوم. قلائل ربما يعرفون، أن شركة جنرال موتورز (GM) قد اشترت في العام 1932 صناعة العربات الخفيفة (Trolly) في 28 مدينة أميركية ومزقت خطوطها وتحالفت مع المجالس التشريعية في الكونغرس، لإقرار خطط لبناء شبكات ضخمة من الطرق.

حالياً، هناك 30 في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، ينتج من احتياجات النقل في أميركا. والطرق المتكررة لمعالجة ذلك هي زيادة استخدام النقل العام. الدراسات من قبل سلطــة النقل العام الأميركيــة (American Public Transportation Authority) (APTA) بينت أن النقل العام ينتج غازات وانبعاثات أقل من النقل في السيارة الخاصة (راكب/ ميل) بمقدار 95 في المئة بالنسبة لغاز أول أكسيد الكربون و50 في المئة بالنسبة لغاز ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين.

معظم الأرقام والدراسات في العالم تتنبأ أنه بحلول العام 2020 ستنتقل حوادث الطرق من المرتبة التاسعة إلى المرتبة الثالثة كمسبب للإصابة والمرض، وستكون في المرتبة الثانية في هذا المجال في الدول النامية ونحن منها. علينا ألا نتقبل الادعاء بأن ضحايا الحوادث يمثلون أضراراً جانبية، لنظام نقل أساسه الاعتماد على السيارة.

استخدام النقل العام يزيد من معدل المشي اليومي على الأقدام بما لا يقل عن 20 دقيقة، بافتراض أن أقرب محطة باص للبيت وللعمل تبعد 5 دقائق مشياً، وفي عشرين دقيقة مشياً فإن المسافة المقطوعة لا تقل عن 4 كم. قطع هذه المسافة على الأقدام يحتاج طاقة تتوافر في قطعة من الشوكولاته يمكن إنتاجها إلى ما لا نهاية، بينما المسافة نفسها بالسيارة تحتاج إلى أكثر من عشرة أضعاف تلك الطاقة، التي تأتي من مصادر غير متجددة، وذلك دون التطرق الى فوائد المشي للجسم وللذهن، فهي معروفة لدى معظم الناس.

بلغ عدد وسائط النقل العام (باصات صغيرة وحافلات)، المسجلة في الأردن في العام 2006 نحو 18700 سيارة، أي ما نسبته 2.2 في المئة من عدد المركبات في المملكة، بواقع وسيلة نقل عام لكل 306 مواطنين، وهي نسبة متواضعة جداً اذا ما أخذنا نسبة ملكية المركبات في المملكة وهي نسبة متدنية (مركبة لكل 7 مواطنين). تشير دراسات مؤسسة النقل العام إلى أن 47 في المئة من سكان عمان يستخدمون النقل العام، ولا يمتلك الثلثان سيارة خاصة ولايتوافر لديهم بديل عنها. وبينت الدراسات أن معدل الدخل الشهري لمعظم مستخدمي النقل العام، هو دون 400 دينار.

والاستثمار في قطاع النقل في الأردن محدود، إذ لم يتجاوز 72 مليون دينار في 2007، ما ينعكس على نوعية الخدمة. تشير الدراسات إلى أن 65 في المئة من ركاب النقل العام مضطرون لاستخدام خطي نقل عام للوصول لمقاصدهم، وأن 27 في المئة منهم قد يستخدمون ثلاثة خطوط.

يستخدم قطاع النقل العام 16 في المئة من استهلاك الوقود في الوطن، وهو ما يعادل 43 في المئة مما يستهلك في قطاع النقل، والذي ينتج 90 في المئة من انبعثات أول أكسيد الكربون، وهو إحدى الملوثات الرئيسة للبيئة. أما على مستوى الحوادث فإن 50 في المئة من وسائط النقل العام اشتركت في حوادث في العام 2006، وأنها نتجت عن 120 وفاة (12 في المئة من الوفيات في المملكة).

للنقل العام مزايا واضحة في تقليل الازدحام والتلوث وزيادة الأمان على الطريق، إلا أن مدى تطوره في المملكة ظل، في معظم الأحيان، مخيباً للآمال، لأن مستخدمي السيارة الخاصة نادراً ما يدفعون التكلفة الحقيقية التي يتحملها المجتمع بسبب ذلك الاستخدام، فهناك قرى ومدن مترامية الأطراف ذات كثافة سكانية قليلة، تحتاج إلى شبكات طرق أطول وكذلك رحلات أطول للنقل العام بما يؤدي إلى زيادة تكلفة خدمات النقل العام، ما يؤدي إلى زيادة تهميش الفقراء الذين عادة ما يسكنون في هذه المناطق.

ومع ازدياد أعداد السيارات الخاصة في المملكة عاماً بعد عام، فإن الحلول المرورية التي تنفذها الجهات المسؤولة سواء في العاصمة أو في المدن الأخرى، ستبقى غير فاعلة، وربما تزيد من المشاكل المرورية، لأنها تشجع على مزيد من امتلاك السيارات الخاصة واستخدامها. ربما يتمثل الحل الأنجع في زيادة الاستثمار الحكومي والخاص في قطاع النقل العام، مع تقديم الدعم اللازم له، باعتباره خدمة أساسية ينبغي تقديمها للمواطنين شأنها شأن خدمات البنية التحتية الأساسية مثل الكهرباء والمياه، ولأن الاستثمار في النقل العام قد لا يكون مربحاً في أغلب الأوقات، فإن الاستنكاف عن تقديم الدعم من قبل الحكومة لهذا القطاع، يبقيه ضعيفاً وتبقى معه مشاكل الازدحام والتلوث والحوادث في ازدياد ودون حلول جذرية.

من السياسات الممكن اتباعها في هذا المجال: عدم تشجيع استخدام المركبات الخاصة، إما بزيادة الضرائب على استخدامها عموماً، أو جعل استخدامها في مراكز المدن أكثر صعوبة (رفع بدل استخدام المواقف وعدم التوسع في زيادة عددها)، ودعم المبادرات التي تساهم في التشجيع على استخدام النقل العام؛ توفير خدمة النقل العام للعاملين بالمؤسسات الحكومية والخاصة مجانا أو بأسعار زهيدة.

إن توفير وسائل النقل العام الفعالة التي تحترم إنسانية المواطن من حيث المظهر والنظافة والتوقيت والأجرة العادلة، تؤدي إلى فوائد كثيرة ومجدية للاقتصاد الوطني وللحياة الاجتماعية، من حيث الحد من تلوث الهواء وزحمة السير، وتقليص كلفة إنشاء الطرق وصيانتها، والحد من كلفة السيارة وتشغيلها وصيانتها، ما يؤدي إلى رفع مستوى السلامة على الطرق والتقليل من عدد الحوادث المرورية وزيادة فاعلية الاستخدام السليم للأراضي لخدمة طبقات المجتمع الوسطى والفقيرة.

*خبيرة في الهندسة وتخطيط المرور

مستشارة في مجال السلامة المرورية

ملف عابر للحكومات: النقل العام: تقصير حكومة الذهبي يفاقم المشكلة المزمنة
 
04-Dec-2008
 
العدد 54