العدد 54 - بورتريه
 

محمود الريماوي

مكث عدنان بدران (73 عاماً) سبعة أشهر بين نيسان/أبريل وتشرين الثاني/نوفمبر من العام 2005 في الدوار الرابع، وضعته في دائرة الضوء وأمام أنظار الرأي العام وممثليه. اضطر لإعادة تشكيل حكومته بعد أسابيع على تشكيلها تحت ضغط نيابي، بحجة عدم استيفائها التمثيل الجهوي، وامتد عدم الرضى النيابي بعدئذ إلى بضعة شهور لاحقة، وتعرضت حكومته لحملة من صحف أسبوعية على خلفية وقف اشتراكات وإعلانات حكومية فيها.

إعادة تشكيل الحكومة شكّل نقطة ضعف مبكرة، ألقت بظلالها على حكومته.

يذكر بدران في مقابلة صحفية بعد مغادرته موقعه، أنه قام بالحد من تعيين مستشارين و«محاسيب» في مؤسسات حكومية، وقام بضغط التعيينات عموماً وقصرها على وزارتي الصحة، والتربية والتعليم. ومع رفع حكومته أسعار المحروقات وفقاً لبرنامج التصحيح، تفاقمت أسباب لجعل حكومته غير شعبية في أنظار الرأي العام، وهي الحكومة التي واجهت آنذاك تفجيرات الفنادق الآثمة، وحافظت على منسوب الحريات العامة، وانتهى الأمر برفع مذكرة حكومية لحجب الثقة عن الحكومة، كما جرى مع حكومة طاهر المصري الأقصر عمراً بين الحكومات:ستة أشهر، ما أنهى عمر حكومة بدران.

غير أن أوساطاً أخرى تذكر أن صلاحيات رئيس الحكومة بدران آنذاك كانت عملياً ضيقة محدودة، وقد تم الحث على الانتهاء من وضع الأجندة الوطنية كي تتغير الحكومة. وقد تغيرت بالفعل في اليوم التالي لتسليم الأجندة للديوان الملكي.

نُسب إلى بدران بعد استقالته، أنه لم يعرف لماذا أختير للموقع الأول في السلطة التنفيذية، ولماذا دُعي إلى تقديم استقالة حكومته، ونفى بعدئذ، ولكن ليس بعد وقت قصير ما نُسب إليه.

يعتبر كثيرون تجربته في رئاسة الحكومة، «تبرهن» على أن حظوظ وفرص الأكاديميين في مواقع قيادية في السلطة التنفيذية ليست كبيرة. ربما ينطوي هذا الرأي على بعض الصحة، غير أن المشكلة أبعد من هذا التشخيص، فالحياة السياسية محدودة، وتداول السلطة والتمثيل النيابي والسياسي عموماً ضيقان (لقانون الصوت الواحد فضل كبير في ذلك)، بما لا يتيح تجديداً فعلياً وسلساً في الوجوه والأسماء وتالياً في السياسات. الرئيس بدران كان يستحق فرصة أكبر، وهناك من يرى أنه لم يثبت حضوراً كافياً، وقد ذهب في النتيجة «ضحية» هذه المحدودية أو الانسداد في قنوات التجديد، رغم أنه هو نفسه وجه جديد. لكنه وجد نفسه مدعواً للأخذ بأساليب قديمة، دون أن يشفع له ذلك ودون أن يترك بصمة واضحة رغم كفاءته.

على أن سيرة الرجل أغنى للحق من مجرد وقوفه في محطة نادي رؤساء الحكومات.فبدران في الأصل من جيل أكاديمي ريادي، أسهم في تأسيس جامعات: اليرموك، ومؤتة، والعلوم والتكنولوجيا، وفيلادلفيا. تخصصه في العلوم: البيولوجيا، والفيزيولوجيا رفعه إلى مستوى علمي مرموق، وإلى عمادة كلية العلوم في الجامعة الأردنية، وأمين عام مجلس العلوم والتكنولوجيا، وباحثاً في مراكز علمية وجامعات أميركية (في ستينيات القرن الماضي وقبل أن يتم الثلاثين من عمره).

في مطلع التسعينيات، مثّل الأردن في مقر اليونسكو في باريس مساعداً ثم نائباً للمدير العام حتى العام 1998. وهو موقع لم يبلغه أردني من قبل في هذه الهيئة الدولية. قبل ذلك كان أمضى أقل من عام وزيراً للزراعة ثم وزيراً للتربية والتعليم، في حكومة الشريف الأمير زيد بن شاكر الأولى، ما يعزز رأي البعض بأن حظوظه في الإدارة أقل من حظوظه في العمل الأكاديمي والبحث العلمي. يدلل هؤلاء على رأيهم بأن عدنان بدران أستاذ العلوم البيولوجية في جامعة اليرموك منذ العام 1976، ترك بصمات أفضل من رئاسته الجامعة، فقد اقترنت صورة رئاسته رغم أية إنجازات حققتها إدارته، بفصل عشرات من الطلبة وعدد من المدرسين من الجامعة، على خلفية احتجاجات على رفع رسوم جامعية. في واقع الأمر أن الاحتجاجات اختلطت بنشاطات حزبية في تلك الفترة، حيث كانت الأحكام العرفية مشددة وعين الأمن ساهرة على الحراك السياسي داخل أسوار الجامعة. ولم تخفض الرسوم بعدئذ، ولم تكن القرارات بيد رئيس الجامعة وحده. ولم يبدر عنه في ما بعد نقد ذاتي معلن لذلك الإجراء، الذي عكس حالة احتقان عامة، ما حمل صاحب القرار بعد نحو عامين على استئناف الحياة الديمقراطية المعطلة.

منذ أواخر تموز/يوليو الماضي يترأس «المركز الوطني لحقوق الانسان»، ويخلف بدران في هذا الموقع رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات الذي «استقيل» على خلفية تقارير للمركز عن الانتخابات النيابية والبلدية وأحوال السجون، إضافة لسبب آخر يتعلق بتوقيع رئيس المركز السابق على بيانات سياسية. المركز رسمي وقد تشكل بإرادة ملكية قبل نحو ستة أعوام. وقد حظي المركز بصدقية عالية، لما تمتعت به تقاريره من روح نقدية موضوعية، تستحق استثمارها من أجل التصويب الذاتي، ومساءلة الدولة لأداء مؤسساتها وهيئاتها. يمثل هذا الاختيار تحدياً لصاحبه، وكانت مصادر المركز نفت تقارير صحفية بتقاضي رئيسه المعين راتباً شهريا قيمته خمسة آلاف دينار، وأشارت تلك المصادر إلى أن رئيس المركز المعين، لا يتقاضى أي راتب عن موقعه هذا.

أياً يكن الأمر، فالتحدي قائم بأن يواصل المركز في عهد بدران اتباع سياسة مستقلة، وبخاصة بعد الرصيد المعنوي الذي سجله المركز. وبعد انتقال بدران من العمل الأكاديمي والنشاط البحثي، مجدداً إلى موقع «إداري» ذي صبغة سياسية غير خافية. ولوحظ قبل أيام أن المركز أقر إنشاء فريق وطني لمعاينة حالات تعذيب في السجون(مراكز الإصلاح) تتحدث عنها تقارير دولية متواترة. خطوة جيدة على أن لا يقع الفريق في شرك العمل البيرقراطي، دون نتائج ملموسة في القريب، وأن يحدد الفريق، في المقام الأول، الانتصار لحقوق الإنسان وصيانة سمعة الأردن.

ينقل عارفون لبدران وقريبون منه تمتعه بشخصية أبوية شرقية عاطفية وحازمة، ونزوعه لسرعة الإنجاز، مع ضيقه من الثرثرة (شكا من وزراء في حكومته كانوا يكثرون من الكلام.. كما ذكر في مقابلة صحفية).

قدر من يخوض غمار السياسة أن يجد نفسه في لجّة من الكلام، وبخاصة مع نقص المؤسسية، وضعف التمثيل والتداول على السلطة التنفيذية.

عدنان بدران:أكاديمي في لُجة الإدارة والسياسة
 
04-Dec-2008
 
العدد 54