العدد 51 - أردني
 

محمود الريماوي

حظيت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، باهتمام عالمي يضاهي في بعض جوانبه اهتمام الأميركيين أنفسهم بهذا الحدث. دوافع هذا الاهتمام في متناول الباحثين، تبدأ بالنفوذ الهائل العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي للدولة العظمى، وتمر بالنقمة على بوش وحزبه ومحافظيه الجدد، ولا تنتهي بالأزمة المالية التي بدأت في أميركا، وسرعان ما هددت بقية دول العالم باقتصاداته الكبيرة والصغيرة.

على أن ترشيح الحزب الديمقراطي لباراك حسين أوباما، أضاف سبباً آخر لهذا الاهتمام الفائق. فقد صعد السناتور الشاب من منطقة مجهولة تكاد تكون معتمة، ما أثار فضولاً شديداً نحو الانتخابات، ونحوه شخصياً بدأ بالتشكك به، وبلغ ذروته بالإعجاب به والخشية من النيل منه.

خرج الرجل من بؤرة تأتلف فيها المسيحية مع الإسلام، وتجتمع فيها إفريقيا مع أميركا الشمالية، ويمتزج فيها إرث الكفاح ضد العنصرية باحترام القانون والدستور، وتلتقي فيها صورة أميركا التي تجمع بين الاضطهاد المشين للملونين وأسلاف أوباما منهم، وبين استقبال المهاجرين من سائر الأعراق ومن شتى بقاع المعمورة في بلد الفرص.

هكذا، فما عمل جورج بوش على تبديده، وقد أفلح للحق في مسعاه، جاء أوباما الشخص والظاهرة حاملاً الوعود باستعادته، وإعادة تظهير صورة أميركا الأخرى التي كادت تحتجب وتمحى.

وحتى مساء الاثنين الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري وعشية ظهور النتائج، فقد كان التشكك قائماً على نطاق واسع في العالم : هل يأذن الأميركيون البيض بتصعيده. .هل يأخذه أبناء جلدته وأنصار التحرر والعدالة بالجدية المطلوبة ويندفعون للتصويت له، وهل تمر العملية الانتخابية دون تلاعب ما، يهدر على الرجل الطامح فرصة الوصول الى البيت الأبيض؟.

لم تمض ساعات حتى كانت النتائج تضع حداً للمخاوف، وتكشف فوزاً مريحاً للمرشح الديمقراطي الشاب، على منافسه ذي الأفكار الشائخة ماكين. وجرى على الفور استعادة مقولات "عبقرية أميركا، دينامية التغيير فيها، تجدد الحلم الأميركي" وهي عبارات لا تفسد المبالغة فيها صحتها. وبدا الأمر أشبه بتحقق رؤيا شبه ميتافيزيقية.. رغم أن المرشح المتدين هو من مني بالخسارة.

وخلافاً لما جرى في حملته الانتخابية، ففي مؤتمره الصحفي الأول، تفادى الرئيس المنتخب نثر الوعود التي طالما أغدقها من قبل. "التغيير" الذي اتخذه شعاراً وأيقونة لحملته، حل محله خطاب توافقي يتعامل مع أوضاع البلاد، كما هي عليه، لا كما يؤمل لها أن تتغير، رغم ما حفل به خطاب الانتصار الاحتفالي من وعود متجددة، وذلك بعض من مكر السياسة.

وسارع معلقون لوضع الرجل في خانة الوسط، وهو موقع يرتاح له الساسة عادة، إذ يعفيهم من تبعات التصنيف، فيما وصفه معلقون بأنه استراتيجي (يتطلع لحصد نتائج كبيرة لاحقة، لا مكاسب صغيرة فورية). بينما نعته فريق ثالث بأنه ما زال في مرحلة "تقليب خياراته".

على أن مسارعة الرئيس أوباما لتعيين رام إيمانويل كبيراً لموظفي البيت الابيض، أثارت تكهنات حول خياراته. فالرجل معروف بتأييده العلني للدولة الإسرائيلية وسبق أن خدم في الجيش الإسرائيلي (لا الأميركي) في أثناء حرب الخليج العام 1991، ويقال إنه يحمل الجنسية الإسرائيلية إلى جانب الجنسية الأميركية.

الإعلامي العربي البارز في الولايات المتحدة هشام ملحم، يصف هذا الاختيار في النهار اللبنانية الأحد الماضي السابع من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بأنه تم لأسباب داخلية محضة تتعلق بدينامية إيمانويل واستعداده للمواجهة ليس مع الجمهوريين فحسب بل مع الديمقراطيينن أيضاً في الكونغرس. أوباما نفسه عزا هذا الاختيار، إلى أن مدير البيت الأبيض يضظلع بدور جوهري في قدرة الرئيس وإداراته على تطبيق برنامج عمله.

ملحم، ينقل عن ناشط ومستشار بارز في الحزب الديمقراطي هو كريس لاباتينا، قول الأخير "إن اختيار إيمانويل تم لأسباب داخلية بنسبة 95 بالمئة".

هذا التطور الأولي، يدلل على مدى دقة المهمة المنوطة بالدبلوماسية العربية، في التعامل مع الرئيس الجديد.لقد تم بالنسبة له تغليب العوامل الداخلية على ما عداها في اختيار كبير الموظفين، وليس لأحد لومه على ذلك. غير أن الرجل لم يأخذ حساسية الخارج في الاعتبار حين أدلى بتوضيحه، وامتنع عن أية مقاربة تتعلق بالسلام الموؤد بأيد أميركية في الشرق الأوسط.

بينما تتحدث أوساط أخرى بأن الرئيس الجديد سوف يستعين ليس فقط بدنيس روس، المبعوث الأميركي السابق إلى المنطقة، بل كذلك بالباحث السياسي روبرت مالي، المتفهم لاستحقاقات السلام والعارف بالعوائق الفعلية أمام إحلال السلام، وكان مالي واكب مفاوضات كامب ديفيد الماراثونية بين الراحل عرفات وباراك.

ويستذكر متابعون أن أوباما خلال زيارته للمنطقة في أثناء حملته الانتخابية أمضى أقل الوقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يعاين جدار الضم والتوسع الذي يشق الأراضي المحتلة ويصادر مساحات كبيرة منها. وأنه أطلق وعودا حول رسوخ الانحياز الأميركي للدولة العبرية، مع تجاهل أن الدولة المتميزة في الرعاية، تقوم على احتلال أراضي الغير منذ أكثر من أربعة عقود.

وبينما اتسمت ردود الفعل الإسرائيلية على انتخابه بالحذر والإصرار على "مستقبل مشرق ينتظر العلاقات الإسرائيلية الأميركية". فقد بدت ردود الفعل العربية الرسمية بدورها وقد اكتنفها الحذر والتردد حيال سياسي، غير معلومة وجهته الفعلية.

حتى إن العراق الذي يشكو من حالة احتلال، ومن ضغوط الإدارة الجمهورية عليه لتوقيع اتفاقية تنتقص من سيادته، بدا شديد الحذر في ردود فعل مسؤوليه.

الحذر والتردد يغدوان قيمة يُعتد بهما، إذا عكسا جدية في التعامل مع التطورات، تنأى عن التسرع، ويتأهب أصحابها لاتباع سياسة دينامية، تتعدى إطلاق المناشدات والأداء الدبلوماسي التقليدي، الذي ارتد سلسلة خيبات واجه بها الرئيس المنصرف بوش وإدارته، الدبلوماسية العربية على مدى ثماني سنوات عجاف.

من منطق الأمور أن يأخذ الرسميون العرب التحول الأميركي في الاعتبار، وأن يعمدوا من جانبهم الى ملاقاته، بتحول في الخطاب والأداء تجاه البيت الأبيض وصانعي القرارات في واشنطن. لم يعد من الحكمة في شيء إعفاء واشنطن، من مسؤوليتها الكبرى في التدهور المريع الذي لحق بقضية العدالة والسلام في الشرق الأوسط. لم يعد مقبولاً ولا مفيداً الفصل بين علاقات قوية ووثيقة مع الولايات المتحدة تستحق التمسك بها، وبين الجهر بتأثر هذه العلاقات بسياسة خارجية أميركية، تتنكر للشرعية الدولية وتجافي أحكام القانون الدولي وتقفز عن حقوق الإنسان والشعوب في منطقتنا.

يقترح ناشط سياسي في هذا الصدد مخاطبة إدارة أوباما بخطاب مفاده : لهذه الإدارة أن تتقيد بإرث التحالف مع الدولة العبرية، وأن تواصل الإغداق عليها من أموال دافعي الضرائب، على أن يتم التمييز بين الدولة العبرية القائمة منذ العام 1948، وبين احتلالها لأراضي الغير في العام 1967، وما يحفل به هذا الاحتلال من تنكيل وتقتيل، وسرقة الأراضي والمياه، وهدم البيوت واقتلاع الأشجار، مما وثقته عشرات الهيئات والمنظمات في العالم بما فيها المنظمة الدولية الأم "الأمم المتحدة" على مدى أربعة عقود.

الدمج بين الدولة العبرية وبين مصالح احتلالها تحت مسمى "إسرائيل"، يمثل خطيئة سياسية وقانونية، وعاراً أخلاقياً آن لأميركا "الجديدة" أن تقلع عنه، وفاءً لميراث تحرر ومساواة وعدالة وضعه "الآباء المؤسسون"، وينهل منه ويصدرعنه الرئيس المنتخب كما تدل المؤشرات حتى الآن.

أوباما أمام معادلة التغيير والاستمرار: فرصة كبرى لاستثمار التحوّل الأميركي
 
13-Nov-2008
 
العدد 51