العدد 51 - بورتريه
 

محمود الريماوي

رغم أنه وضع ثلاثة مؤلفات في تخصصه بعلم الصيدلة، التي درسها في الجامعة الأميركية ببيروت ونال فيها شهادة بكالوريوس بامتياز، إلا أن عبد الرؤوف الروابدة (69 عاما) شق طريقه إلى عالم السياسة منذ أصبح وزيراً للمواصلات في حكومة مضر بدران الأولى في تموز/يوليو 1976، وكان في السابعة والثلاثين من عمره، ثم اختياره عضواً في المجلس الوطني الاستشاري في العام 1978، ولم يبارح عالم السياسة منذئذ. فالرجل يفرض حضوره في الحياة العامة، رغم أنه تولى، في البدء، مواقع غير سياسية، مثل تقلّده أمانة عمان في العام 1982 وليس بلدية إربد مثلا. فعمان هي العاصمة الإدارية والسياسية التي تتسع لطموحاته، ومنذ نحو 35 عاماً غدا ابن الصريح عمّانياً، تعرفه منتدياتها ومحافلها، بحضوره الخاص ولمساته الشخصية اللاذعة، وبمشاركاته المؤثرة، وإن كان يعود إلى المربع الأول في الانتخابات النيابية، فيترشح عن مقاعد الشمال.

تولى أبو عصام وزارات: المواصلات، الأشغال العامة والإسكان، التربية والتعليم. وتقلد مناصب، مثل رئيس مجلس إدارة شركة الفوسفات، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة إعمار العاصمة، فضلا عن أمانة العاصمة. وامتدت اهتماماته إلى الرياضة رئيسا لنادي الصريح (مسقط رأسه)، وللاتحاد الأردني لكرة القدم. هذا السجل الغني يفيد أن الرجل لم يتقلد مناصب ذات سمة سياسية طاغية، مثل وزارة الإعلام أو الخارجية أو الداخلية ورئاسة الإذاعة والتلفزيون. مع ذلك نجح أبو عصام في تظهير شخصية السياسي فيه، رغم المواقع التقنية التي تولاها. ويُنظر إليه منذ نحو عقدين كأحد الأقطاب السياسية في البلد، وقد انتزع موقعه بالجلد وبتحديد هدفه والمضي إليه بروح قتالية، لا تخطئها بصيرة من يعرفه أو يتعرف حديثاً إليه، وبجمعه بين خط الولاء التام للدولة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في الوقت نفسه، فقد احتل مقعداً نيابياً منذ العام 1989 مع بدء التحول الديمقراطي، ولم يبارح مقعده إلا إلى الدوار الرابع رئيساً للوزراء في أول حكومة تتشكل في عهد الملك عبدالله الثاني، في 4 آذار/مارس 1999، ثم عاد مجدداً إلى موقعه نائباً تحت القبة بعد مرور سريع على عضويته في مجلس الأعيان (2001-2003).

وإلى الوزارة وزيرا لخمس مرات ثم رئيساً للحكومة، فقد نشط أبو عصام في الحياة الحزبية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أميناً عاماً لحزب "اليقظة" الذي اندمج في العام 1996 ضمن الحزب الوطني الدستوري، حيث تولى أبو عصام موقع نائب الأمين العام (عبدالهادي المجالي). وقبل أن ينفرط الحزب المؤتلف من سبعة أحزاب وسطية ومحافظة، كان الروابدة قد انسحب منه ومن الحياة الحزبية، واتخذ موقفاً ناقداً من تجربة الأحزاب، وهو موقف يلتقي فيه مع كثيرين ناقدين، وإن من منطلقات مختلفة.

لم يجد الرجل نفسه في الحياة الحزبية وهو الذي أقبل في مقتبل عمره على الأحزاب، فانتسب الفتى عبد الرؤوف إلى حزب البعث العربي الاشتراكي وهو في الصف التاسع في مدرسة الصريح تحت تأثير أحد أساتذته في المدرسة، فلما انتقل إلى مدرسة إربد الثانوية في العام 1954 وقع تحت تأثير معلم آخر، حبّب إليه جماعة الإخوان المسلمين كما يذكر زياد أبو غنيمة في كتابه "الوزراء الحزبيون على خارطة الحكومات الأردنية"، فالتحق بها.

أمضى الرجل ردحاً من الزمن في عضوية "الجماعة"، من ثانوية إربد إلى الجامعة الأميركية في بيروت، واستمرت صلته بها بعد تخرجه وعودته إلى الوطن حتى أواخر الستينيات.

شخصيته المستقلة وطموحه الذاتي لم يتواءما مع الضوابط الحزبية، لا في مرحلة الشباب المبكرة، ولا في فترة النضج اللاحقة. غير أن حقبة الانضواء في جماعة الإخوان لنحو عشر سنوات، طبعت شخصيته بطابع التعايش مع "الأصيل والأصول"، والحذر من المستجد، والتشكك في التحديث، إلى جانب روح الثبات والثقة التي تميز شخصيته والتي عززتها التربية الحزبية في جماعة الإخوان.

في مرحلة التحول الديمقراطي، نشط الروابدة ولو إلى حين في البرهنة على أن عالم السياسة لا يعني تلقائياً وبالضرورة الانضواء في المعارضة، فالسياسة تتسع لأهل الموالاة أيضاً.. وهو ما اعتنقه أقطاب آخرون منهم على الخصوص عبد الهادي المجالي، مهندس تجارب حزبية لم يقيض لها النجاح، ولكن مع نجاح آخر أحرزه في التمثيل الشعبي وتشكيل كتل نيابية.

فَارق الروابدة الجماعة منذ أربعين عاما، وانحاز إلى خط الدولة، وبات هذا الخط المعيار الذي يحكم به على الجماعة وغيرها. وهو ما يميزه كسياسي "دائم" أكان في موقع رسمي أم خارجه، مميزاً بين مشاعره وربما قناعاته كمواطن، وبين مقتضيات السياسة ومصالح الدولة كما يردد دائما.

حظي أبو عصام بعلاقة وثيقة مع الراحل الحسين، زكّتها نزعته المرحة وميله إلى المباسطة. ويتفق كثيرون على أن روحه السجالية التي أبداها في "مواجهة " مع ليث شبيلات، في أحد برامج "الجزيرة" (1998) جذبت إليه أنظار صانعي القرار، وأعاد التلفزيون الأردني بث الحلقة في سابقة نادرة، وعبدت طريقه إلى الدوار الرابع نحو رئاسة الحكومة الأولى في العهد الجديد. ولم يكن عمر الحكومة بأقصر من سابقاتها، وقد تميزت ببعض التشدد تجاه الإعلام رغم علاقات أبو عصام الطيبة والواسعة بجمهرة الإعلاميين. وتميزت تلك الحكومة باتخاذ موقف متشدد أيضا من حركة حماس ووجود قادة لها في المملكة، حيث تم ترحيل عدد منهم إلى خارج البلاد. كان ذلك بالطبع خط الدولة أساساً، غير أن الرجل طبع هذا الخط بأسلوبه الخاص. وكان تحفظه على إنشاء منطقة العقبة الخاصة، سبباً رئيساً في مغادرته موقعه، ولم يخلُ الأمر حينها من احتكاك مع جهة نافذة.

شهدت تلك الحكومة أيضا ما يشبه المواجهة، مع موقع رئاسة الديوان الملكي الذي كان يتولاه رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الكباريتي، ولم يلبث الأخير أن غادر موقعه، بما أسس لإعادة النظر في العلاقة بين الموقعين (رئاسة الديوان ورئاسة الحكومة)، ولشيوع مبدأ الولاية الدستورية للحكومة.

أما النيابة التي ما زال أبوعصام من أقطابها، فيجمع فيها الرجل على طريقته، متسلحاً بموهبته الخطابية وقدراته السجالية، بين التعاون مع المشاريع المقدمة من الحكومات والتجاوب مع الحس الشعبي. فهو حكومي مع المعارضة وشعبي مع الحكومات.

ينقل عنه عارفوه جنوحه الحالي إلى الزهد في المواقع والمناصب، وقناعته بحق الأجيال الجديدة في أن تأخذ فرصتها. لكن من يدري ما يخبئه الآتي، فالسياسة "في دم" الصيدلي القديم.

عبد الرؤوف الروابدة: السياسة “في دم” الصيدلي
 
13-Nov-2008
 
العدد 51