العدد 51 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

يشق عليه تذكر متى غادرت عائلته رام الله وسكنت القدس، حيث رأى إلبرت بطرس النور في العام 1934، لكنه يتذكر خطاه الأولى التي داهمتها الحروب، فسرقت زهو طفولته وتركتها عرضة لشتى الأنواء.

في الثالثة من عمره اندلعت ثورة الـ 36، وقبل أن يكمل الخامسة من عمره «وعى» على تقنين المواد التموينية الأساسية «السكر، والرز، والطحين وغيرها» عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعلى التقسيم الإنجليزي للقدس إلى 3 مناطق هي: A,B,C، وكان مكان سكنى العائلة في المنطقة B الواقعة في القدس الغربية على بعد 150 متراً عن فندق الملك داوود.

ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى اشتعل الصراع بين العرب واليهود والإنجليز. فكانت القدس تنام وتصحو على لعلعة الرصاص، ما اضطر أبوه إلى وضع متراس من الرمل يحمي المنزل.

مدرسته الأولى «تراسنطة» التي أنشأها الرهبان الفرنسيسكان، وشغل فيها والده، جميل، منصب كبير الأساتذة. ومن أساتذته الذين يعزو الفضل إليهم، عيسى الناعوري.

الفتى الذي انهمك في اللعب مع أقرانه قرب بيته، تناهى إليه صوت انفجار هز فندق الملك داوود،يوم 22 تموز/ يوليو 1946 الذي فجره اليهود، وكان وشقيقه من أوائل الواصلين إلى المكان، وشاهدا الدمار «لم نعش طفولتنا كباقي الأطفال، كنا أبناء صراع مستمر جعلنا نتشرب روح النضال والدفاع عن البلد».

من فرط حب والده لشكسبير أطلق على أولاده وبناته أسماء شخصيات من مسرحياته ومنهم الإبنة الكبرى «أوفيليا» التي سافرت في بعثة من الحكومة الفلسطينية لإكمال دراستها في بريطانيا. و«أوفيليا بطرس» من الشخصيات ذات الباع في سلك التعليم في الأردن، شغلت منصب مديرة المدرسة الأهلية والمدرسة الإنجليزية الحديثة إلى أن تقاعدت.

منذ صباح 27/5/1948 اندلعت المعارك بين العرب والصهاينة عقب جلاء القوات البريطانية عن مواقعها قبل الموعد المعلن بيوم 15/5/1948 حسبما يتذكر. تشبثت العائلة بالحي الذي هجره سكانه بعد أن تحول إلى ساحة حرب حتى لم يعد من المغادرة مفر. وتوجهت العائلة إلى بيت جالا.

أقامت العائلة في منزل زميل والده في تراسنطة، بشاره عبد ربه، حيث تشاطرت العائلتان البيت.

دخلت وحدة من الجيش العربي إلى بيت جالا واستقرت في مخفر الشرطة. عندما طلب من والده السفر إلى عمان للمساعدة في إقامة كلية تراسنطة كرديف لتراسنطة القدس، ودعت العائلة فلسطين وأهل بيت جالا، وأقامت في عمان.

بحكم تأثيرات الأب، أبدى إلبرت اهتماماً بالقراءة، وقبل أن يكمل الخامسة عشرة من عمره كان قد آتى على «نصف» الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر.

بعد إنهائه الثانوية الأردنية العام 1950، عُيّن مدرساً في تراسنطة، فلم تكن لديه القدرة المالية على متابعة دراسته الجامعية.

تصادف أن وزارة التربية والتعليم كانت تبحث عن طلاب للالتحاق الفوري بالجامعات البريطانية، فوجدوا ثلاثة: عبد الرحمن عدس، وعدنان أبو غزالة، وإلبرت بطرس. توجهوا جميعاً للقاء مدير البعثات في الوزارة خليل السالم، الذي يسر لهم سفرهم.

حاز إلبرت بكالوريوس الشرف في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة لندن العام 1958.عاد الموفدون الثلاثة إلى عمان في العام 1960، وجرى إيفادهم مجدداً إلى الولايات المتحدة، وحاز بطرس الدكتوراه من جامعة كولومبيا على الرغم من تنازله عن البعثة كونه عمل في التدريس في جامعتين أميركيتين.

قبل سفره عقد خطوبته. . وقرر الطرفان وذووهما أن يتما زواجهما في الولايات المتحدة حيث لحقت به الى هناك، وأقامت مؤقتاً عند خال لها، حتى اقترنا في حفل حضره 8 أشخاص فقط.

لفتت أطروحته للدكتوراه حول أثر المفردات الإنجليزية على اللغة العربية في فلسطين والأردن الأنظار إليه، فتلقى 18 عرضاً رفضها كلها. «أردت العودة إلى بلدي، وكان الحديث بدأ عن الجامعة الأردنية، وكنت أقول لمقدمي العروض، هناك مئات في أوروبا وأميركا مثلي. أما في الأردن فلا مثيل لي بعد هناك».

أحد العروض جاءه من القسم العربي في إذاعة هيئة الأمم المتحدة التي يرأسها جورج خوري، والد الصحفي رامي خوري، وكتب جورج خوري مقالة في إحدى الصحف اليومية الأردنية العام 1976 مذكراً بالحكاية، حملت عنوان «إلبرت بطرس من زمان».

«الجامعة الأردنية بدأت بتشكيل لجنة ملكية لإنشائها بميزانية بلغت 25 ألف دينار، وتبلغ موازنتها الآن 100 مليون دينار. بدأنا ب167 طالباً وطالبة، وطلبتها اليوم يفوقون الأربعين ألفاً. أعتقد كشخص واكب الجامعة منذ إنشائها أن التوسع كان أسرع من اللازم، نظراً لأن التوسع السريع يحمل خطر الهبوط في المستوى، اعتقد أن ما هو مطلوب من الجامعة الأردنية وكل الجامعات هو الحد من التوسع الأفقي والتركيز على المستويات الأكاديمية، لأننا نحيا عصر العولمة،.

يرى بطرس أن المخاوف من العولمة غير مبررة «فقد اثبتت مجتمعات كثيرة أن العولمة ليست بالضرورة طغيان الغرب على العالم النامي، ما دام بمقدورك أن تقلب الطاولة عليهم، وأحسن الأمثلة الصين والهند اللتان أمسكتا بزمام العولمة وأصبحتا تنافسان الولايات المتحدة».

اختير في العام 1976 أميناً عاماً للجمعية العلمية الملكية، وبمبادرة من رئيس مجلس الامناء، ولي العهد آنذاك، الأمير الحسن. «سألت سموه: لماذا أنا؟ ما دام عمل الجمعية علمياً وتخصصي آداب. فأجاب: لا أريد التخصص، أريد القيادة. فعندما تتوافر القيادة، هناك من يقوم بالأعمال التخصصية». ويؤكد بطرس الذي صار رئيساً للجمعية أيضاً، أنه أمضى سبع سنوات ونصف السنة، يحاول جهده أن لا يتدخل في الأمور الفنية للجمعية.

سافر لمدة عام الى كندا باحثاً رئيسياً في مركز بحوث التنمية الدولية في «أوتاوا». ثم عاد إلى أردنه الذي يهوى.

لم يكد يمض عامان على عودته حتى أختير في العام 1989 سفيراً للأردن في بريطانيا وسفيراً غير مقيم في إيرلندا وإيسلندا.. كما عمل لمدة عام مستشاراً خاصاً للأمير الحسن. «الأكاديمي يشعر أن الجامعة هي بيته، قد ينتقل لعمل آخر، ولكن من المهم أن يعود إلى عمله الأساس. لست من أنصار الخروج من الدائرة الأكاديمية سعياً وراء منصب أو جاه أو ثروة».

تتعدد خبرات ومشاركات إلبرت بطرس في المجالس واللجان المختلفة، كما تتعدد الأوسمة التي نالها. يعمل حالياً أستاذ شرف في «الأردنية» مشرفاً على رسائل الماجستير. فضلاً عن ركونه للتأليف، فسيصدر له قريباً كتاب مترجم عن الشاعر البريطاني من القرن الرابع عشر «جفري شوسر» الذي يعد «أهم ثاني أو ثالث شاعر بريطاني لا يعرفه في العالم العربي، رغم اهتماماته بالعرب والمسلمين.

الأكاديمي البارز ما زال يحث الخطى في دروب عمان التي تحوي أحلى ذكرياته، مستذكراً دروب القدس، مثقل الكاهل بالمعرفة، والقلق على مستقبل التعليم.

إلبرت بطرس: أكاديمي “نضج” على نار الحرب
 
13-Nov-2008
 
العدد 51