العدد 8 - ثقافي
 

ضاقت معدتي بما حشوتها من أكل وشرب وحلوى خلال الأيام الأخيرة من العام المنصرم. عيد فعيد، وليمة فوليمة ونقرشات بين الولائم. وفي كلّ زيارة كعك بالعجوة ومعمول بالفستق ولا والله لا آكل المعمول بالجوز. ولم يتبق غير ما أتمنّع عنه.

توّج أوّل أيام عيد الأضحى منسف ناسف مع عمّتي وأبي وإخوتي في إيدون، القرية شمال عمّان، وجارة إربد، سبقته كعكتان صغيرتان بالعجوة وعدد لا يحصى له من القهوة الأجنبيّة والتركيّة والعربيّة وحبّات شوكولاتة. مع المنسف بعض البصل الأخضر والفجل ليساعدا على الهضم فمن المعروف عالميّا أنّ المنسف من أحد الأسباب الرئيسة لعسر الهضم، وقد تتضاعف المشكلة إن زادت الكميّة عن 700 غرام من الأرزّ الأبيض وخمس قطع من لحم الجدي أو الخروف البلدي وعدّة كؤوس من الجميد وحفنات من الصنوبر واللوز المقليين، وقد يضيف البعض مجموعة من رقاقات خبز الشراك إلى ما سبق.

عدت من إيدون ومعي بعض أقراص العيد أعطتنها زوجة عمّي، خبز من الطحين الأسمر معجون بزيت الزيتون ويخلو من الخميرة وبه حبوب القزحة وبهارات وعلى وجهه زخارف. أحب هذا الخبز كثيرا. يذكّرني بأيّام قديمة كنت أصحو على رائحتها طازجة معلنة العيد، وأكون قد قضيت على رغيف منها قبل أن أفتح عينيّ كاملا. علاوة على جمال هذه الأقراص فتناولها مع لبن خاص نلقّبه حتّى اليوم بلبن الجدّة، وهو لبنة لاذعة الطعم يُضاف إليها الماء وبهار نبتة الحلبة المرّة ورشّة ملح، فتصبح سائلا كثيفا، مع زيت الزيتون وخبز طابون ساخن تصبح وجبة رائعة وإن أضيف لها كأس شاي حلو مع نعنع، يا سلام! طعام من الجنّة!

أخذت قرصين من ذلك الخبز معي وذهبت في ليلة اليوم الثاني من العيد لزيارة اجتماعيّة مع صاحباتي. طلبت من “آني” أن تدفئه قليلا، وبعد إصرار منّي على أن تتذوّقنه تناولت سماح قطعة منه وكانت هذه اللقمة بداية حديث طويل. آني قارنته مع كعك أرمنيّ حلو الطعم تصنعه أمّها في الأعياد وتشكّل منه قطعا تمثّل النجوم أو الأزهار. افتتح هذا الكعك الأرمنيّ حديث السهرة الذي طال مختلف أنواع الطعام. ابتدأنا الحديث عن الحلوى المجهولة التي كانت تصنعها جدّتها وآني طفلة، حلو بالسميد، لربّما، تتشكّل في هيئة كرة ويُسكب عليها سائل حلو ما قد يكون سكّرا محروقا فلونه بنيّ يشبه ما وصفت الحريرة والتي كانت تصنعها أمّي لي ولأختي في مساءات الشتاء الأكثر برودة من السميد الذي يُقلّب مع بعض الزبدة حتّى يشقرّ لونا ثم يُضاف إليه السكّر فالحليب مع التحريك المستمرّ ونتناوله ساخنا في زبديّات.

أمّا “سماح” فذكّرتها أقراص العيد بالفتوت الذي توصي أمّها بإحضار بهاراته الخاصّة من نابلس. فهو عجين من الطحين وبه بهارات منها الشومر والكراوية وحبة البركة. ولست أدري إن كان الأمر متعلّقا بالحنين والنوستالجيا التي تضرب المرء بعد عمر معيّن، إلاّ أننا رحنا في جولة في الذكريات والقصص المتعلّقة بالطبخات المختلفة والأنواع العديدة المهددة بالإنقراض. آني لا تحب أن تطبخ كثيرا لكنها أصبحت أخيرا تخاف على اختفاء أكلات معيّنة لذيذة وقد ترتبط بقصص وأحداث. بدأت تسأل أمّها عن طريقة إعداد بعض الأطباق لتوثّقها، لكنّها واجهت المشكلة التي يواجهها أيّ شخص يرغب في تسجيل عمليّة الطبخ بشكل عمليّة حسابيّة حين يكون عملا ثقافيّا يعتمد التجربة والعادة. فأمّها تقول “زيدي بعض الماء حتّى يصبح العجين طريّا سهل التشكيل ولكنّه متماسك بحيث لا يلتصق بسطح الطاولة.” تسألها آني “ما مقدار الماء بالضبط؟” لن يمكنها معرفة هذا الجواب إلاّ إن قامت آني بتجارب عدّة حتّى تصل للدرجة الصحيحة وتكون قد وثّقت الموضوع.

قالت سماح إنّها ترغب بترك كلّ مشاغلها “شهرين زمان” لتتعلّم من أمّها طرق إعداد طبخات مثل الورق والكوسى ويخنات الفاصولياء والبامية والملوخيّة والسبانخ، وأنواع الصواني التقليديّة وبعض الحلوى مثل الهريسة وغيرها. وقد انتبهت أنا حديثا أنّي أصبحت أرغب في القيام بطبخ الأطباق الشعبيّة اليوميّة. أنا أحب الطبخ كثيرا، قد يكون هذا واضحا مما سبق، لكنّي أطبخ أشياء جديدة أخترعها كلّ مرّة، وتعتمد على السرعة وتراعي الصحة. لعلّه العمر فعلا.

استحضرت المواسم بدورها بعض القصص. فأم آني تشتري البندورة بكميّات هائلة في موسم البندورة البعل القصير. تفرمها وتطبخها وتجهّزها لمختلف أشكال اليخنات والمرقات وتضعها في فريزر ضخم. والصراحة أن المعكرونة التي تأتي بها آني للحفلات رائعة. أمّا سماح فشكت من كميّة الكوسى والباذنجان بأشكالها المتنوّعة التي أكلتها في بيتها أخيرا. عندما أذهب للخضريّ لأتبضّع، أدسّ أنفي سرّا في حبّات الدرّاق والمنجا وفي سحّارة الخيار والبندورة لأبحث عن الرائحة التي تؤكّد جودة الطعم. وهكذا أعرف المواسم.

نسويّتي لا تسمح لي بحصر هذه القصّة في صاحباتي النساء فبحثت في ذاكرتي القصصيّة وتذكّرت أنّ خالي شغوف بالطبخ البلدي التقليديّ وإتقانه، وكان يحلم بتوثيق الطعام من خلال مقابلات مصوّرة مع جدّتي، لكنّ الزمن مرّ، وراحت قصص الطبخ والطبيخ إلى عالم آخر. إنّه يسأل زوجة ابن عمّ أبيه عن يخنة البامية والكبة ليتأكّد من التفاصيل. يتمتّع خالي بحاسّة تذوّق فضوليّة وراغبة ويرفض التعديلات الحداثيّة التي أضيفها أنا إلى الطبخات التقليديّة أحيانا ويعتبرها فلسفة. وجدته يوما في أوّل أيّام عيد الفطر يهرس عجنة الكبّّة ليصنع أقراصا. وأطيب مخلل وزيتون هو ما يكبسه، وأشهى الروائح هي رائحة التبولة التي يصنعها.

اختتمت فعاليّات حفلات المأكل والمشرب بسفرتيّ عشاء حافلتين. تمحورت الأولى حول ديك حبش ضخم ذهبيّ رائحته جذّابة محشوّ بالكستناء والسيليري والبهارات والأعشاب ومصحوب بالبطاطا الحلوة والعاديّة والجزر وغيرها من الملذّات. ثمّ انتقلت من هذا العشاء إلى الثاني الذي تهتزّ به الطاولة تحت العشرات من الأطباق المتنوّعة من ورق عنب إلى طحالات محشوّة وأنواع المعجنات والسلطات والحلوى والفاكهة. مهرجان من الأكل المستمرّ، تأكيد على أهمّ متع الحياة وأكثرها تنوّعا.

لا ينحصر الطبخ والأطباق بفعل الأكل فقط بل بكلّ الدراما التي تحيط به. القصص حول المائدة ومواسم الخضار وذكريات الطفولة. فالطعام لا يذهب للمعدة فحسب بل للوجدان ككل. وما أحلى تلك السعادة الغامرة التي تصاحب امتلاء البطن والكرش والمعدة وما إلى ذلك. بالتأكيد هناك تاريخ جديد يتكوّن مع تغيّر المطبخ وتأقلم الطبيخ مع الحياة الجديدة ثقافة وسرعة وعولمة. ولعلّه تاريخ حلو وهو التاريخ الأصيل لجيله. فقد يكبر أحدهم ولد في نهاية التسعينات مثلا ترتبط ذكريات طفولته ووجه جدّته بالهامبرجر أو البيتزا أو بأندومي وشاورما عربي!

ولائم ومواسم وأجيال: تاريخ جديد يتكون بتأقلم الطعام مع الحياة الجديدة ثقافة وسرعة وعولمة – ديالا خصاونة
 
03-Jan-2008
 
العدد 8