العدد 50 - بورتريه
 

محمود الريماوي

يرتبط اسم محمد سعيد النابلسي، بحدثين على جانب من الأهمية في تاريخ الأردن الحديث، هما أزمة بنك البتراء العام 1985والأزمة المالية لعام 1988.في رأيه أن الأزمة مزدوجة، وقد أفرد لهما كتاباً هاماً أصدره قبل عامين عن «دار سندباد» المنبثقة عن «مركز الأردن الجديد». الكتاب يملأ فراغاً في المكتبة ويوثق لهذين الحدثين، من موقع المسؤولية وصناعة القرارات بشأنهما، لا من موقع مراقب أو شاهد عيان.

على أن حياة الرجل وسيرته المهنية، أوسع وأكثر غنى من التعامل مع هذين الحدثين على أهميتهما البالغة.

فقد درس الفتى في المدرسة الأرثوذكسية في يافا، التي كان يمتلكها وهبة تماري، لينهي دراسته الثانوية في صيف العام 1947 وينتقل بعد أشهر الى بيروت.

في العام 1948 ومع وقوع نكبة فلسطين، كان محمد ابن العشرين قد التحق بالجامعة الأميركية لدراسة الحقوق، غير أن الأب المقيم مع العائلة في يافا، سارع لإبلاغ ابنه بتعذر إمكانية الإنفاق على دراسة الابن، في ظل الظروف المأساوية التي تعيشها البلاد والعباد.وهو ما تفهمه الابن محمد الذي انتقل الى دمشق للالتحاق بالجامعة السورية، إحدى أعرق الجامعات العربية. وإلى جانب دراسته للحقوق (كانت الجامعة تضم آنذاك كلية ثانية فقط هي كلية الطب) فقد التحق الشاب محمد بأعمال مختلفة، لتغطية نفقاته الشخصية ومستلزمات دراسته. ما أن تخرج في العام 1952، حتى التحق بالبنك المركزي السوري الذي كان قيد الإنشاء آنذاك، وذلك بعد نجاحه بعبور مسابقة.بموقعه هذا ساهم النابلسي بتأسيس المركزي السوري تحت قيادة محافظ البنك:الأستاذ الأكاديمي والخبير الاقتصادي عزت الطرابلسي.

النابلسي ينظر إلى الطرابلسي كأحد أهم الشخصيات التي أثارت اهتمامه واحترامه، وكان له تأثير ممتد عليه. يذكر النابلسي أن محافظ البنك المركزي السوري، تقدم بدراسة أعدها البنك وساهم النابلسي فيها، خلال فترة الوحدة مع مصر الى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تبين الأثر السلبي لقرارات التأميم التي اتخذتها الجمهورية العربية المتحدة على الاقتصاد السوري. الرئيس الراحل تصرف بسلبية بالغة مع الدراسة وشكك في نوايا صاحبها ولم يأخذ في النتيجة بها.لكن الطرابلسي تمسك بها وعمد الى تقديم استقالته، وذلك قبل أشهر فقط من وقوع الانفصال عام 1961 ولم يكن الرجل يمتلك مورداً آخر. بعد الانفصال هاجر الطرابلسي الى الخليج، ولم يعمد للإفادة من الظرف السياسي الناشئ.

«الطرابلسي ومعاونه عوض بركات كان لهما أثر بالغ في تكوين قناعاتي بأهمية بناء بيئة تشريعية لانطلاق رأسمالية وطنية وما يتصل بها من أفكار اجتماعية، تسهم في نهضة بلادنا» يقول النابلسي.

في العام 1972 عاد إلى عمان متسلحاً بخبرته في البنك المركزي السوري، وبشهادتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد اللتين نالهما في أثناء عمله في دمشق. ما أن عاد حتى عهد إليه بوزارة الاقتصاد الوطني في حكومة أحمد اللوزي (هذه الأيام يجري التفكير بإعادة هذه الوزارة). يعتبر النابلسي أن تلك الفترة كانت هامة تعافى الاقتصاد فيها من آثار حرب العام 1967 وأحداث أيلول 1970، وكان للأمير الحسن آنذاك كما يذكر النابلسي فضل الرعاية والتوجيه.

الكفاءة التي أثبتها الرجل، هيأته للانتقال في العام التالي الى البنك المركزي الأردني محافظاً للبنك، حيث خدم لفترة طويلة امتدت الى العام 1985.

يذكر النابلسي أنه في تلك الفترة، كان قد توصل الى قناعة بضرورة أردنة البنوك الأجنبية وكان عددها أربعة في عمان.هذا التوجه لم يلق قبولاً لدى عدد من المسؤولين.لكن مع القناعة بسلامة الإجراء وفائدته للاقتصاد الوطني، صدرت عن حكومة احمد عبيدات اللاحقة أنظمة دفاع بأردنة البنوك. مع تشكيل حكومة زيد الرفاعي في العام 1985 فقد سارع رئيس الحكومة،للطلب من محافظ البنك المركزي التراجع عن قرار أردنة البنوك الأجنبية. وقد تمسك المحافظ بصوابية اتخاذ القرار ولم يتراجع عنه، فطلب منه تقديم استقالته لكنه رفض مطالباً بإنهاء خدماته..وقد قام بـ«المساعدة» في هذا الشأن حيث كتب بخط يده قرار مجلس الوزراء بإنهاء خدماته يوم الرابع من أيار لعام 1985!. وما أن غادر مقر رئاسة الوزراء،حتى كان القرار الحكومي قد صدر بإنهاء خدماته وتعيين حسين القاسم محافظا للبنك وماهر شكري نائباً له. بإلغاء قرار الأردنة عادت الأمور إلى ما كانت عليه في السابق.

خلال خدمته الأولى في البنك المركزي، كان النابلسي قد وقف على وضع بنك البتراء وشرع في التحذير من الفساد الذي يشوب أداء البنك. بقول النابلسي إنه دأب على تحذير المسؤولين مما يجري بما في ذلك دائرة المخابرات العامة، التي لقي منها تفهماً كبيراً وبالذات من مديرها احمد عبيدات. وكتاب النابلسي عن «الأزمة المالية المزدوجة» يقدم عرضاً إضافياً لمختلف جوانب تلك الأزمة، ومنها نفيه القاطع من موقع العارف ان يكون الأمير الحسن قد ساعد في «تهريب» الجلبي كما ترددت شائعات آنذاك.

التحق النابلسي بعدئذ بالأمم المتحدة كأحد مساعدي الأمين العام (ديكويلار)، ثم أميناً عاماً تنفيذياً للجنة الاقتصادية لغرب آسيا ومقرها في بغداد آنذاك. في العام 1988 طلب النابلسي من الأمين العام نقل المقر الى عمان،بسبب ظروف الحرب العراقية الايرانية التي تعيق عمل اللجنة. وافقت الحكومة العراقية على الطلب، إلا أن دولة عربية اعترضت بصورة مفاجئة على الطلب، ما جعل بغداد تتمسك بالإبقاء على مقر اللجنة في بغداد. عندها ساءت علاقة النابلسي التي كانت عادية مع الحكومة العراقية فتقدم باستقالته من مركزه (كان يتقاضى عنه راتباً شهرياً بقيمة 17 ألف دولار أميركي شهرياً).

يذكر النابلسي أنه لم يسبق أن التقى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ولو بحكم علاقته وإقامته في عاصمة الرشيد. مع ذلك، فإن أحمد الجلبي، اتهمه أمام إحدى المحاكم الأميركية كمحافظ للبنك المركزي الأردني بالتآمر مع مضر بدران على بنك البتراء خدمة لصدام حسين.

بعودته إلى عمان طلب منه الملك الراحل الحسين، في دارة الشريف الأمير المرحوم زيد بن شاكر العودة محافظاً للبنك المركزي وقد استجاب للرغبة الملكية، لتبدأ عملية التصحيح واستعادة الثقة وعودة الاحتياطي الى البنك المركزي، الذي لم تكن خزائنه فارغة فحسب، بل كان مديناً لبنوك محلية بنحو 60 مليون دينار. في العام 1995 «شعرت أني استكملت أداء مهمتي وعلي المغادرة» وكانت تبقت سنتان على عقده.

عندها انصرف الرجل للعمل في القطاع الخاص.

يتمتع النابلسي باحترام كبير، نظراً لخدمته الجلى للافتصاد الوطني وتفانيه في العمل واستقامته،بما يجعله أحد كوكبة من الرموز الوطنية، ذات الوزن والشأن في الحياة العامة.على سبيل الدعابة جرى سؤاله إن كان سورياً فأجاب: بأن هذا هو الانطباع لدى البعض.. «كل ما في الأمر أني متزوج من سورية، ووالدتي سورية، ووالدة والدي سورية، وأقمت في الفيحاء لستة عشر عاماً متصلة».

يصادف تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حلول الذكرى الثمانين لمولد محمد سعيد النابلسي، وهو من أمضى سحابة عمره، برفقة الأرقام محسناً قراءتها وما يكمن خلفها، بأقل قدر من الانفعال وبأكبر قدر من اليقظة العقلية.هذا هو دأبه حتى يوم الناس هذا، فما زال ينشط في الحياة العملية بإدارته لشركة استشارات اقتصادية،ومع الساعات الأولى كل صباح يجده زائره على رأس عمله.

محمد سعيد النابلسي:كتب “إنهاء خدمته” بيده
 
06-Nov-2008
 
العدد 50