العدد 50 - كتاب
 

يوسف منصور

في خطوة شبيهة بخطوات سبقتها في المنطقة، قام رئيس الوزراء بطمأنة المودعين بأن الحكومة تضمن ودائعهم في البنوك في الأردن حتى نهاية 2009، وهي خطوة إيجابية كان لها الأثر الإيجابي المباشر على سوق عمان المالي، حين طمعت الشائعات وأرسلتها بعيداً عن السوق المالي الأردني والنظام المصرفي الذي نعتقد جميعاً بنجاعته، ويعتقد محللون بأنه سيستفيد على المديين القصير والمتوسط من الركود العالمي نتيجة انخفاض أسعار السلع الرئيسية كالنفط والمواد الغذائية.

ولكن هذه ما تزال خطوة واحدة يجب أن تتبعها خطوات أخرى كتعظيم السيولة في السوق، لأن السيولة تراجعت في الأردن بسبب ارتفاع سعر الفائدة وأزمة شركات البورصات العالمية التي امتصت الكثير من ادخارات الأردنيين. فدول الخليج، وهي دول تتمتع بتاريخ إيجابي في التعامل مع الأزمات المالية والمصرفية، قامت بتحرك نشط لمنع تعميق أثر الأزمة عليها، فلقد أكد وزراء المالية ومحافظو المصارف المركزية الخليجيون قبل أيام متانة الوضع المالي والاقتصادي في دول مجلس التعاون، وتوقعوا استمرار النمو بمعدلات جيدة مع استمرار مخصصات الإنفاق على المشاريع التنموية للدول الأعضاء وتسارع وتيرة الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في التنمية.

وكانت حكومات دول مجلس التعاون، وبشكل منفرد، قد ضخت مبالغ كبيرة من المال في البنوك. ففي الإمارات وعدت بضخ 120 بليون درهم في قطاعها المصرفي وضمنت جميع الودائع في بنوك البلاد. كما ضخت السعودية في مصارفها ما بين بليونين وثلاثة بلايين دولار، وضمنت الحكومة فيها جميع الودائع المصرفية بعد أن خفضت مؤسسة النقد السعودية معدل الاحتياط الإلزامي الذي ينبغي على المصارف التجارية السعودية المحافظة عليه مقارنة بودائعها من 13 الى 10 بالمئة. وقررت قطر ضخ 3.5 بلايين دولار في نظامها المالي، كما أعلن صندوقها السيادي عزمه شراء أسهم في المصارف المحلية. كما أعلنت البحرين أنها وضعت مبالغ على ذمة البنوك التي تحتاج سيولة، وأعلنت الحكومة الكويتية أنها تضمن الودائع المصرفية في حال تبين ضرورة ذلك. وخفضت أغلب دول مجلس التعاون الخليجي نسب الفائدة الرئيسية لتفادي نقص السيولة في القطاع المصرفي وتباطؤ النمو. وبالتوازي مع الأزمة المالية العالمية، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تراجعا في عائداتها التي يأتي 80 بالمئة منها من قطاع النفط، في الوقت الذي تراجع فيه سعر النفط، بشكل كبير، خلال أشهر قليلة ليفقد حوالى 55 بالمئة من قيمته منذ سعره القياسي الذي فاق 147 دولارا للبرميل في تموز/ يوليو ليصل الى أقل من 70 دولاراً للبرميل، وهو السعر الذي ستعمل أوبك على إعادة معدلات السعر إليه من خلال تقليل كميات الإنتاج، حيث خفضت أوبك إنتاجها بمعدل 1.5 مليون برميل يوميا، دون أثر يذكر على المدى القريب.

اما في دول العالم الأخرى، فقد وعدت الحكومات دعمها للبنوك بقيمة 3.3 تريليون دولار، أو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا؛ كما تم تخفيض سعر الفائدة في أميركا وبريطانيا فيهما إلى 1.5 بالمئة، وكان لذلك أثر إيجابي على الأسواق المالية هناك، كما قامت هولندا بضخ 13.5 بليون دولار، وعرضت سويسرا على بنوكها احتياطات إضافية للتحوط من أثر الأزمة، وقامت حكومة فرنسا بتسريع مشاريع كبرى لتحفيز الصناعات الرئيسية فيها وإبعادها عن الركود، وتقوم ألمانيا بدعم استثمارات استراتيجية في قطاعات محددة، وفي آسيا خفّض البنك المركزي في الهند سعر الفائدة لأول مرة منذ 4 سنوات، وقامت كوريا الجنوبية بوضع 130 بليون دولار إضافية تحت تصرّف البنوك.

ومن ناحية أخرى، ما زال هناك نقاش يدور في الأردن بين بعض المؤسسات الحكومية حول أهمية تخفيض سعر الفائدة بين البنوك وأثره في سوق عمان المالي وزيادة الاستثمار في الأردن، «وذلك أضعف الإيمان». المدرسة الأولى، وهي المدرسة التي أؤيد، تؤكد بأن هناك صلة بين الاستثمار في الأسهم أو السندات، وأن هذه الصلة هي عبارة عن علاقة إحلالية، أي أن المستثمر يختار ما بين شراء أسهم ذات مردود يتمثل في الأرباح الموزعة ونمو سعر السهم، وبين وضع أمواله في سندات أو حساب إيداع بفائدة. وهي علاقة تدرّس لطلاب السنة الأولى في كليات الاقتصاد، بالإضافة إلى كونها تتطابق مع المنطق العام أو العقلاني، فالإنسان يبحث دائما عن المردود الأفضل لأمواله.

ويدعم توجه المدرسة القائلة بتخفيض معدل الفائدة مبدأ أن معدل الفائدة هو سعر أو كلفة رأس المال وكلفة الاقتراض، من أجل استهلاك السلع المعمّرة وغير المعمرة والاستثمار في السكن الكريم. وبهذا فإن تخفيض الفائدة يؤدي إلى تخفيض الكلفة على المستثمر والمستهلك للسلع والخدمات. فالمستثمرون والرياديون الذين يقترضون لتمويل مشاريعهم يستثمرون أكثر حين يكون سعر الفائدة منخفضا، وكلما ارتفع سعر الفائدة أصبح الاستثمار والاستهلاك أقل لما تشكله الفائدة من عبء على رأس المال أو الدخل المتاح للمستهلك.

أما المدرسة الأخرى، فيدعي كتابها ومؤسساتها بأن معدل الفائدة في الأردن يجب ألا ينخفض لأنه منخفض أساساً، ولأن معدل الفائدة الحقيقي سالب (معدل الفائدة ناقص معدّل التضخم)، ولأن معدل التضخم سيرتفع مع انخفاض معدل الفائدة، كما يصرّون على أن المصارف الأردنية لديها الكثير من السيولة حالياً، التي لم يقترضها الناس، ولذلك فلا داعي لتخفيض معدل الفائدة لرفع مستوى السيولة في السوق.

ادعاءاتهم هذه لا تخلو من السطحية في التحليل والأخطاء الاقتصادية، بل والجهل بأساسيات علم الاقتصاد للأسف. فالعلاقة بين الغلاء ومعدل الفائدة علاقة تدرّس أيضاً لطلبة السنة الأولى في الاقتصاد مع بعض التحفظات والاستثناءات. كما أن الفكر الذي اعتمد عليه الفريق الذي يقول لنا لا تفعلوا شيئاً، بل افعلوا الخطأ، منقوصُ ومليءُ بالأخطاء التحليلية كما إنه يخلو من أي فكر أو تحليل اقتصادي جاد. فلنأخذ أولا مقولة إن معدّل الفائدة الحقيقي في الأردن سالب، فهذه ظاهرة لا تخص الأردن فقط، بل هي موجودة في معظم دول العالم، والدول النامية بخاصة، ودول المنطقة على وجه التحديد، فالتضخم نتج عن تغيرات عالمية أقوى من أدوات السياسة النقدية المحدودة الأثر في هذه الحال، وهي ملاحظة طرحها الاقتصاديون الحقيقيون وحملة جائزة نوبل في الاقتصاد من أمثال جوزيف ستغليتز وبول كروغمان وشرحوها في مقالاتهم (ليت هؤلاء قرأوها)، التي تعتبر خلاصة أوراق بحثية عميقة ومحكّمة من قبل أفضل الاقتصاديين في العالم. كما أكد ستغليتز لملايين القرّاء في جميع أنحاء العالم أن البنوك المركزية في الدول النامية لم تعد قادرة على التحكم في التضخم من خلال أدوات السياسة النقدية، من رفع أو خفض لسعرالفائدة، لأن التضخم أتى من الخارج، حيث لا تمتلك هذه الدول حولا ولا قوة. وأنا مثل هذه الملايين أصدق هؤلاء الاقتصاديين المحترمين عالمياً أكثر من مقالات وادعاءات كتّاب ليس لديهم أي تدريب في علم الاقتصاد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البنك المركزي الأردني أطلع مجموعة من قادة الفكر الاقتصادي في الأردن من القطاعين العام و الخاص، على نتائج دراسة قام بها تقول إن الجزء الأعظم من التضخم (57 بالمئة) ناتج عن عوامل خارجية كارتفاع الأسعار عالمياً للنفط والسلع الأساسية، ما يدل على أن السياسة النقدية سيكون لها أثر قليل على التضخم صعوداً أو هبوطاً. وبهذا فإن عمالقة الاقتصاد في العالم والبنك المركزي في الأردن يتفقون، ومنذ شهور عديدة، على أن التضخم ناتج عن تحركات ومؤثرات خارجية، ما يعني أن الإدعاء بأن تخفيض سعر الفائدة سيؤدي إلى مزيد من الغلاء هي مقولة يجب حذفها.

ويدعي هؤلاء أن البنوك لديها الكثير من السيولة، وهم أشاروا إلى ذلك في مقالات عديدة دون أي تحليل لسبب انحباس هذه السيولة لدى البنوك. وهُنا لا بد من التذكير بأحد أهم قوانين الاقتصاد التي تدرس لطلبة السنة الأولى في الاقتصاد، ألا وهي قانون الطلب والذي ينص على أن الناس يقومون بشراء كمية أقل من السلع أو الخدمات حين يكون السعر مرتفعا، وبناءً على هذا القانون فإن أحد أهم عوامل انحباس الاقتراض من البنوك هو ارتفاع معدل الفائدة، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع السيولة لدى البنوك وليس بالضرورة في الأردن أو السوق فالمواطن (مستثمرا كان أو مستهلكا) يحجم عن الاقتراض بسبب ارتفاع معدل الفائدة.

والغريب في الأمر أن هؤلاء ينسون أن الأردن رفع سعر الفائدة 17 مرة خلال الفترة 2004-2005 بمواظبة تامة مع بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وحين بدأ الأخير بتخفيضها لم يقم بتخفيضها على مواطنيه. كانت حجة رفع سعر الفائدة واهية كحجة عدم تخفيضها الآن، وبالمحصّلة، فإن الإدعاء بأن تلك الأموال المودعة لدى البنوك هي أيضا مجموع السيولة لدى الناس، وقول إنها تمثل مجموع السيولة في الأردن هو أيضاً إدعاء خاطئ ومبني على عدم فهم للمبادىء والتعاريف الاقتصادية الأساسية.

يوسف منصور: ما فعلنا وما يفعله الآخرون
 
06-Nov-2008
 
العدد 50