العدد 1 - ثقافي
 

إن مقاربة الحداثة والحداثية بالاجتهاد الفردي قد يبدو مشروعاً بالغ الطموح بل ومقنعاً، ليس بسبب جسامة المجهود التوثيقي المطلوب فحسب، بل نظراً لديمومة الموضوع وملازمته المترافقة مع مراحل التاريخ الذاتي الباطني للكائن البشري العاقل والواعي بحالته كمنشأ ومحرك لتاريخه الوضعي الطويل.

وإذا ما أشرنا إلى لفظة «الحديث» من منظور تفاعلي تطوري لرأينا أنها ليست اختراعاً وابتكاراً للجيل الذي أضفى عليها طابعها المؤسسي واسع الانتشار بل على العكس، فقد ظهرت في العصور الوسطى، وبوسعنا القول بهذا الخصوص إن المخلوق البشري صار «إنساناً حديثاً» لحظة تناوله لثقافة المعرفة ودفع اصبعه إلى صدغه مُتأملاً متسائلاً..! إن كل ما ولىّ وذهب يعني «شيئاً مختلفاً» جديداً ومتميزاً من «شيء مختلف آخر»، وسابق، كما يعني في الوقت ذاته. ومن حيث ماهية الكائن.. التمرد وتجاوز التقاليد المقيّدة للعطاء الإبداعي، وعلى كل ما هو مانع للتطور.

في هذه الحالة، ينبري سؤال ملح: هل هناك حقاً ما هو «حديث» و»حداثي»؟. وإذا كان الرد بالإيجاب، فهل أتت هذه الحداثة لمجرد مرحلة من المراحل المتلاحقة المترابطة أم. هي مجرد حدث من الأحداث المتكررة دورياً في صعودها الحلزوني. إلى حد النفاد والإضمحلال الذاتي؟.

«إن الشمس تُشرق وتغرب وتركض نحو مشرقها كي تبزغ من جديد! الذي كان سيكون والذي حدث سوف يحدث لا جديد تحت الشمس»!.

بين هذا التأمل الذي تقرؤه في الأساطير التوراتية وبين الإعلان الشهير للشاعر الفرنسي «آلاثر رامبو» الهاجس بضرورة بل بحتمية أن نكون «حداثيين بأي ثمن» مسافة زمنية شاسعة تمتد على مدى ألفي سنة كان خلالها الإنسان المبدع الباني، كما الإنسان التفكيكي المدمر قد تقدم عبر التاريخ، تاركاً خلفه «شيئاً» قاصداً لأن يكون. «شيئاً آخر» وهو: الإنسان ما بعد الإنسان!.

بين الأسطورة التوراتية القدرية الناطقة بدورية وتكرارية الحلزون من ناحية، وبين «إعادة بناء الإنسان» كمهمة وغاية أساسية للحداثة ولما بعدها.. بين المستويين تاريخ تفاعلي ذاتي وموضوعي نلحظ فيه كيف أن الإنسان فأكثر يعود إلى ذاته وإلى قدرته على استعادة هذه الذات الأصلية المفقودة، واسترجاعها.

يتحدث في هذا المجال «جورج لويس يورفيس» في كتابه «مكتبة بابل» الذي يتناوله أيضاً الكاتب البرتغالي «خوسيه مارا ماغو» في روايته «قصة حصار لشبونا» وهو الإحساس بالدخول إلى كون مجزأ التكوين، فإذا ما أردت اكتشاف هذا الفضاء باللجوء إلى النصوص لاحظت أن كل كتاب يحيلك إلى كتاب آخر، فكل مجلد يضم قسطاً من الكل الذي لا ينكشف إلاّ باكتشاف كل كتاب وكل نص على حدة. إنه العالم المضلل المحير الذي يصعب رؤيته كوحدة متكاملة ومنسجمة مع ذاتها.

في عام 1863 كتب الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» قائلاً: «إن الحداثة تُجسد كل ما هو انتقالي وعابر وطارئ، وإنها نصف واحد بينما النصف الآخر هو ذلك الذي يحتوي على السرمدية».

المهم هنا أن الحياة تتجدد مع بداية كل سنة جديدة، كما يقول المؤرخ الروماني المعاصر (لوسيان يوبا) «الفصول الأربعة» تعود باستمرار وبصورتها المعروفة نفسها، النباتات تثمر و«تموت» كل سنة كي تنبت وتعيش وتموت من جديد. إنها سلسلة لا متناهية من حلقات الموت والحياة، إنها العودة الكونية الدائمة إلى الجذور».

ما يهمنا هنا هو إدراك الحداثة كـ«حالة» وظرف كي نجيب عن السؤال: «هل هذه الحالة تعبير عن مرحلة يعيش فيها الإنسان الحديث في غليان وتمرد واسئصال، أم هي مجرد موضة طارئة لا غير؟.

في ضوء ذلك، فإننا غير مقتنعين بأن بداية الـ(ما بعد) تعبر بالضرورة عن «النهاية» بل قد تعبر عن معنى «البداية الجديدة» لأن التحديث هو، في آخر المطاف، بمنزلة ترك شيء والسير نحو شيء آخر؛ بهدف الإصلاح والتصحيح.

*كاتب أردني

هناك دائماً جديد تحت الشمس – سليم النجار
 
08-Nov-2007
 
العدد 1