العدد 49 - أردني
 

سراب الخفاجي

"ستة كيلو غرامات من الجفت بسعر إجمالي 60 قرشا، تمنح من الحرارة على مدى 12 ساعة متواصلة ما تمنحه تنكة ديزل بسعر 14 دينارا". هذه، باختصار، المعادلة التي اتبعها أبو رمزي العام الماضي في تدفئة منزله، مستعينا بمدفأة حطب قديمة. أبو رمزي ليس الوحيد في المملكة الذي اضطره ارتفاع أسعار الوقود إلى البحث عن مصادر بديلة والعودة إلى أيام زمان، أيام الجفت والجلّة، فهناك كثيرون، ولكنه ربما كان الأقدر على تلخيص التجربة.

الجفت هو، ببساطة، التفل، أو ما يتبقى من ثمار الزيتون بعد عصرها، وهو مكون من أخشاب البذور وألياف اللب. وغالبا ما يشكل الجفت 40-45 بالمئة من وزن الثمرة. بلغت كمية الجفت الناتج عن عصر الزيتون في 2007 حوالي 34 ألف طن، فيما بلغ إنتاج الزيت في العام نفسه 21 ألف طن. إلا أن نسبة بسيطة من هذه الكميات تم استغلالها اقتصاديا.

للجفت استعمالات تقليدية؛ وقود، علف، سماد، بالإضافة إلى أنه يحوي كميات محدودة من الزيت يمكن الاستفادة منها صناعيا. ولكن ثمة استعمالات غير تقليدية كالاستفادة منه في الدواء والغذاء. وفي كلتا الحالتين، لم تتبلور بعد صيغة لاستغلال الجفت استغلالا اقتصاديا كاملا، وإن ساد في الأعوام الأربعة الأخيرة توجه نحو تصنيعه كفحم للمدافىء المنزلية والمنشآت الصناعية. إلا أن هذا التوجه لم يعمم على مستوى وطني.

هيثم خوري، عضو نقابة أصحاب المعاصر ومنتجي الزيتون الأردنية، كانت له تجربة في مجال تصنيع الجفت، حيث أنشأ مصنعا في دير الورق بالمفرق؛ إلا أن المصنع أغلق العام الماضي. يعزو خوري بعضا من أسباب ذلك إلى «عدم توافر دعم حكومي»، بالإضافة إلى ضياع سوق العراق الذي كان المستهلك الأكبر لهذه المادة.

ويصار إلى تحضير الجفت لإنتاج الفحم من خلال معالجته بتجفيفه أولا لمدة تراوح بين شهرين وستة أشهر، ومن ثم يتم تجميعه لكبسه في قوالب خاصة، ثم يقطع بأشكال مختلفة منها المكعبة أو الأسطوانية، ويترك مدة من الزمن ليستكمل عملية التماسك. ويستعمل على هذه الحال في أغراض التدفئة وتوليد الطاقة للمنشآت الصناعية، وحتى كحجر فحم في الأرجيلية.

بموازاة هذا التصنيع، نشأت صناعات محلية مكملة مثل المدافئ المزودة بـ"بوري" لحمل الدخان الناتج عن عملية الاحتراق إلى خارج المنزل. يراوح سعر هذه المدافئ بين 17-20 دينارا. كما ظهرت البويلرات الخاصة المعدة لاحتراق الجفت والمستخدمة في المنشآت الصناعية، مثل مزارع الدواجن والمعاصر نفسها. على مدى الأعوام الخمسة الماضية، كانت مصانع الإسمنت هي المستهلك الرئيس للجفت. فثلاثة أطنان من الجفت بتكلفة 195 ديناراً (على أساس سعر الطن 65 دينارا) تعادل ألف ليتر من الديزل بكلفة 662 ديناراً.

التنبه إلى الجدوى الاقتصادية للجفت، زادت من أسعاره عاما بعد عام وبشكل مطرد. قبل حوالي 4 سنوات، لم يتجاوز سعر الطن 5 دنانير، ليرتفع إلى 15 دينارا ثم 20، وفي العام الماضي وصل 60 دينارا، ويتوقع البعض أن يرتفع إلى ما بين 100 و120 دينارا للطن. وثمة 3 مستويات لأسعار الجفت بحسب الحالة المباع فيها: فالجفت "الطازج" من المعصرة، يقل سعره عن المجفف (يراوح بين 20-25 دينارا للطن)، وهذا يقل سعره عن المكبوس. وفي هذا التقسيم تجارة مربحة. إذ يلجأ بعض التجار إلى شراء الجفت "أخضر"، أي رطبا، بسعر رخيص نسبيا ليقوم لاحقا ببيعه جافا وبسعر أعلى.

بعض المعاصر تنبهت إلى أهمية الجفت؛ أبو محمد، الذي أدار معصرة في منطقة جرش في الأعوام الأخيرة، يقول إن من المعاصر من يرفض رد الجفت إلى صاحب الزيت، فيأخذونه بدل العصر.

وقد أثبت الجفت فعالية كعلف للماشية، بديلا عن الشعير؛ وكمبيد حيوي للآفات الزراعية بدلا عن المبيدات الكيماوية. وزير الزراعة الأسبق محمد العلاونة الذي يجري أبحاثا على الجفت منذ الثمانينيات، يقول إنه لم ينجح في تحصيل تمويل محلي لمشروع المبيد الحيوي، فنفذه في مصر حيث أثبت فعالية. لاحقا، أخذ العلاونة وكالة هذا المنتج في الأردن، كما أجرى أبحاثا على تصنيع الحرير والورق من خشب الجفت. وربما كانت أكثر أبحاث العلاونة إثارة للاهتمام، أنه تمكن من تصنيع غذاء ودواء من الجفت. فيما يتعلق بالغذاء، فإن بالإمكان إنتاج زيتون قابل للدهن مثل الزبدة، ونوع من المقبلات يشبه صلصة البندورة، ونوع ثالث يشبه الجبن في قوامه. ويقول العلاونة إن طعم هذه المواد "ممتاز".

نشرة أصدرتها وزارة الزراعة تقول إن الجفت يحتوي على نسبة جيدة من المادة الغذائية وإنه سيصار إلى إنتاج مخلل لب الزيتون. فقد أجرت مؤسسة تشجيع الاستثمار دراسة حول هذا المنتج كونه سيدخل السوق كمنتج جديد.

أما عن الاستعمالات الطبية، يقول وزير الزراعة الأسبق إن أبحاثه أظهرت أن في الجفت مادة "تحيل دهون الجسم إلى أحماض بسيطة يسهل التخلص من الزائد منها، ما يحد من مشاكل الكولسترول مثلا". وفيه مادة أخرى تعالج أمراض الأعصاب والروماتيزم وتمنع الشيخوخة المبكرة. ويقول العلاونة "إن مادة في الجفت تشبه المادة التي يفرزها الدماغ وعمر الإنسان بين 15 و35 عاما، وهي سنوات الشباب". لكن العلاونة يشدد على ضرورة أن يكون الجفت "طازجا" حتى تتم معالجته للحصول على هذه المواد.

**

"الدق": تدفئة مأمونة

يذكر علي نصوح الطاهر، صاحب كتاب "شجرة الزيتون"، أنه في أربعينيات القرن الماضي، كانت الأفران العامة والصناعية والمصابن (معامل الصابون) في نابلس، تستعمل الجفت الذي يحول بعد حرقه إلى ما يسمى "بالدق"، والذي شاع استعماله للتدفئة شتاءً في جميع القرى الجبلية آنذاك؛ فكان أهل نابلس يطفئون الجفت المحترق في فرن المصبنة برشه برذاذ الماء فيتحول إلى ذرات فحمية، ويترك حتى يبرد، ويكوم في أكوام ثم يباع للاستهلاك المحلي. ومن خصائص "الدق" أنه لا يسبب اختناقا إن أشعل داخل غرفة، كما هي الحال في الفحم. ومن الناس من يتركه داخل غرفة النوم دون أن يخشى منه.

**

"رم": أقدم منطقة زرع فيها الزيتون

الزيتون: وجدت في بلاد الشام ونقلها الفينيقيون إلى ضفاف المتوسط يعود تاريخ زراعة شجرة الزيتون إلى آلاف السنين، ,وتعتبر من الآثار الخالدة للعديد من الحضارات، فقد زرع الزيتون منذ العصور الأولى للتاريخ. وكان الفينيقيون أول من نشروا الزيتون من بلاد الشام إلى حوض البحر المتوسط، وصولاً إلى إفريقيا وجنوب أوروبا، ثم حمله اليونان والرومان إلى مناطق أوروبا الغربية. من هناك بدأ انتشار الشجرة في إيطاليا وإسبانيا. وتعتبر منطقة شرق المتوسط، وبخاصة سورية الطبيعية، الموطن الأصلي لهذه الشجرة. وقد وصلت شجرة الزيتون عبر مكتشفي العالم الجديد مثل كريستوفر كولومبوس في القرن السابع عشر، لتصل أميركا الشمالية والجنوبية، وتنتشر زراعة الزيتون في مناطق متعددة من الولايات المتحدة، وأشهرها ولاية كاليفورنيا. ووصلت هذه الشجرة إلى أستراليا في أقاصي الأرض.

لكن الجدل يتواصل حول أقدم شجرة زيتون في العالم، فهناك شجرة زيتون موجودة في قرية الولجة في القدس الجنوبية يزيد عمرها عن 5500 عام، ويطلق عليها السكان اسم شجرة "سيدنا احمد البدوي". وهناك حكايات تنسج حولها ، فالسكان يخشون التعرض لها بسوء مثل قصف غصن منها، أو استخدام ثمارها.

وقبل أشهر أعلن فريق فرنسي أردني للآثار أن قرية «هضيب الريح» في منطقة رم في الجنوب، هي أقدم منطقة زرع فيها الزيتون، ويعود تاريخه إلى العصر النحاسي، أي قبل أكثر من 7 آلاف عام.

ظهر الزيتون في معظم الحضارات المتعاقبة على بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وارتبط على مر الزمن بالكثير من الثقافات المختلفة، فأصبح جزءاً من عادات وتقاليد هذه البلدان، لا مجرد شجرة شامخة وثمرة شهية.

إلى كونه غذاء ودواء وعلفاً: الجفت: طاقة الفقراء البديلة بعد ارتفاع أسعار المحروقات
 
30-Oct-2008
 
العدد 49