العدد 49 - أردني
 

ليلى سليم

من يستمع إلى أم صالح حزيّن، وهي تروي ذكرياتها عن قطاف الزيتون أيام زمان، سيدرك أنها تشبه واحدة من شجرات الزيتون التي تروي عنها، فهي مثل الزيتونة التي تبقى محافظة على خضرتها وألقها رغم مرور السنين. تدخل أم صالح عامها الواحد والتسعين بوجه مشرق مشدود وعينين لامعتين مقبلتين على الحياة، وهي مثل الزيتونة، ما زالت، رغم البعد، ضاربة جذورَها في قريتها؛ عين كارم، فتروي وعلى رغم البعد في الزمان، ما زالت تروي بذاكرة حديدية، تفاصيل التفاصيل لأحداث مرّ على بعضها ثمانون عاما، وهي أخيرا مثل زيتونة، تجلس في منزلها في جبل الأشرفية مثل شجرة اقتُلعت من جذورها فضربتها ثانية في الأرض الجديدة.

تروي بفخر عن والدها الذي كان يتولى عملية الزراعة، وتقول إنه كان أفضل من أي مهندس زراعي في هذه الأيام، وتتذكر كيف أنها مرة شهدته يزرع شتلة زيتون: "كنّا نسمي شتلة الزيتون تنقيلة، لأنها كانت تنقل من مكان إلى مكان، واستغربت كيف أنه عندما حفر الحفرة، جاء بكومة من الحجارة متوسطة الحجم ووضعها فيها، ثم وضع الشتلة فوق الحجارة، ومن ثم أهال عليها التراب. وعندما أبديت استغرابي، قال لي إن الحجر أحنّ من التراب على الشتلة، لأنه سيسمح لجذورها بأن تمتد وتتفرع".

كان موسم القطاف يبدأ في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر، وقبلها بقليل، كانت تتم عملية جمع حبّات الزيتون الساقطة تحت الشجر، وكانت هذه العملية تسمى في تلك الأيام "جول"، ويقوم بها أصحاب الزيتون أنفسهم، بعكس عملية "التصييف"، وهي جمع حبّ الزيتون المتبقي بعد انتهاء الموسم. كان يقوم بذلك الفقراء، ممن لا يملكون أرضاً ولا شجراً. بحسب أم صالح فإن الأراضي في تلك الأيام كانت تقاس بالمدة التي تحتاجها للحراثة، فيقال: أرض حراثتها يومان أو ثلاثة أيام، أو ثلاثين: "المساحة نفسها ستحتاج إلى مدة حراثة أقل إذا لم تكن مزروعة بالشجر، فالشجر يجبر الحرّاث على الالتفاف حوله، وهذا يطيل الوقت. كانت مساحة أرضنا، زوجي وأنا والأولاد، حراثة يوم، وفيها سبع شجرات، وأغنى واحد في البلد، كان من بيت أبو جابر، ولقبه الحمدون، كان يملك أرضا مساحتها حراثتهاة ثلاثون يوما."

موسم القطاف كان مناسبة تشترك فيها العائلة بجميع أفرادها، فقد كان العمل كثيرا وشاقا، ويحتاج إلى كل يد متاحة، لكن الناس كانوا يجدون دائما وسيلة للتغلب على المشقة، فيسلّون أنفسهم بأغان كانت مخصصة للموسم، وهي أغان كانت تعدد أنواع الزيتون وصفاته، وتعبّر عن تفاؤلهم بأن يكون موسم خير:

"يا زيتون بو مـــــرّي

هُــرّلّي بلــــــح هرّي

يا زيتون بو عرموش

هرّلي ذهب وقروش"

أو:

"يا زيتون الحق عليـــك

واطلع زيتك من عينيك"

أو كانت أغاني تصف عملية قطاف الأنواع المختلفة من الزيتون:

"يا زميري زيتك طيب

أما لقاطــــك بيشيّب

يا صـرّي زيتــك مرّي

أما لقـــــاطك بسلّي"

والزيتون الزميري هو نوع من الزيتون يتميز بجودة زيته، لكنه صغير الحجم وقطافه شاق. أما الصرّي فهو زيتون كبير الحجم، قطافه سهل، ولكن زيته أقل جودة.

وهناك الأغاني التي كانت تعتمد السخرية والفكاهة، وكانوا يرددونها للترويح عن النفس:

"دادوا الشويخ دادوه

لبــاب البير وارمـــوه

عســى حـــيّة تلاقيه

وتفــرغ سمــها فيه"

وتتذكر أم صالح أغنية حظي بها الرجل الأكثر ملكية للزيتون في القرية أم كانت تردد في موسم الزيتون:

"يا جابر وافتح بير الزيت تنضوي علاليـنا

عصـــيتك يا بوجابـر عنقـــرنا طواقينــــا

يا جابر وافتح بير الزيت تنبل الرويقــاتي

عصيتك يا بوجابر عنقروا الشبــاباتـــي"

موسم الزيتون كان أيضا فرصة للتبادل التجاري: "كان أهالي غزة يأتون إلينا حاملين خروجا، مليئة بالليمون والبرتقال والبلح وقصب السكر، وكنّا نبادلها بالزيتون".

بعد انتهاء عملية القطاف، كان الزيتون يحمل إلى البيوت لينشر على الأسطح إلى أن يحين دوره للعصر في المعصرة التي كان أصحابها يحددونه مع الزبائن من أبناء القرية. وفي بلدة أم صالح كان هناك ست معاصر آلية، إضافة إلى ثلاث معاصر قديمة التي كانت تدار بواسطة الحيوانات، وتسمى "البدود" ومفردها "بدّ". وما زالت تفاخر بأنه كان في عين كارم ستة معاصر آلية من أصل 15 معصرة في قضاء القدس بأكمله.

أما أجرة العصر فكانت محددة، إذ تأخذ المعصرة جزءا من الزيت المعصور كأجر:

"كان هناك (كيلة) حديد تسمى (هْواه) يتم بها كيل الزيت، وكان أصحاب المعصرة يأخذون "هواه" واحدة مقابل كل عشرة يعصرونها".

بعد عصر الزيتون يبقى "الجفت"، الذي كان يتم استخراجه بطريقة خاصة: "كان المتبقي من الزيتون المعصور يوضع في قفة مصنوعة من الصوف، ثم توضع فوقه كتلة حديدية، ثم ترص هذه الكتلة بحجر كبير، ويتم بمساعدة الماء استخراج الكمية القليلة المتبقية من الزيت، فيبقى الجفت الذي كنّا نأخذه ونخزنه لنستخدمه وقودا في الطابون، وللتدفئة في الشتاء".

ولأن الجفت نوع من الوقود يتميز بنظافته وطول مدة اشتعاله، فإنهم كثيرا ما كانوا يدخرونه للاستخدام وقودا في الشتاء، أما في الصيف فقد كانوا يستعيضون عنه بأغصان الزيتون التي زادت بعد عملية التقنيب والحطب والأعشاب الجافة. "كنّا نستفيد منه حتى بعد احتراقه، فقد كان هناك أشخاص يأتون لشراء رماده، لخلطه مع ملح البارود، واستخدامه لعمليات تفجير الصخور للحصول على حجارة للبناء وأغراض أخرى".

زيت الزيتون، في تلك الأيام، لم يكن مادة غذائية فحسب، لقد كان عماد حياتهم. وأم صالح تستذكر استعمالاته: "كنّا ننقط منه في الأذن عند الشكوى من آلامها، ونشرب كميات منه لمعالجة آلام البطن، وندهن الصدر عند السعال، كما كانت النساء يدهن به شعورهن للزينة".

وتتذكر أم صالح زيارات الداية عليا النعجة للمرأة بعد ولادتها: "كانت الداية تأتي لمدة أربعين يوما بعد الولادة لتحمم الطفل، ويكون ذلك مرتين في الأسبوع أحد وأربعاء، وكانت تدلك جسم الرضيع بالزيت والملح، لمنع السماط".

كما كان الفلاحون يستخدمون الزيت لإنارة المشاعل التي كانت تستخدم في الأفراح. وتذكر أن الأفراح التي كانت تستمر على مدى ليال طويلة قد تصل عشرا، أن أهل البلدة كانوا يأتون بجذع شجرة زيتون قديمة، ويشعلونها حتى نتنهي السهرة، فيصبو عليها الماء لإطفائها، ثم يعودون لإشعالها في الليلة التالية، وهكذا. كما كان يستخدم لإنارة المنازل. فالزيت يتميز عن الكاز بأنه يستمر فترة أطول، وتتذكر هنا كيف أنها كانت مرة في زيارة لأحد أبنائها، وانقطعت الكهرباء، فأخذت قطعة قماش، وصنعت منها فتيلة، ثم نقعتها بالزيت، ووضعتها في صحن صغير، وأشعلت فيها النار، صانعة منها سراجا متغلبة على انقطاع الكهرباء، ومقتطعة من الزمن فترة عادت فيها إلى أم صالح أكثر من ثمانين عاما إلى الوراء، مستعيدة تلك الأيام التي كانت تسهر فيها على سراج من الزيت.

موسم الزيتون أيام زمان: يبدأ بالجول وينتهي بالتصييف
 
30-Oct-2008
 
العدد 49