العدد 8 - اقليمي
 

“إن أتت منيتي فليس باستطاعة أحد أن يحميني، وإن لم تأت فليس باستطاعة أحد أن يقتلني”. هكذا كانت زعيمة المعارضة الباكستانية الراحلة بينظير بوتو تقول لأركان حزبها الذين كانوا يطالبونها باتخاذ احتياطات أمنية، تحميها من مخططات لاغتيالها في بلد يعتبر من أكثر بلدان العالم فقداً للاستقرار.

وقد أتت منية بينظير في السابع والعشرين من كانون الأول الماضي، فلم يستطع أحد أن يحميها حقاً، فماتت كما عاشت “امرأة وحيدة بين الرجال”، كما قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية. بل إنها دفنت بينهم أيضاً؛ إلى جوار والدها ذو الفقار علي بوتو الذي أعدمه الجنرال ضياء الحق عام 1979، وبين أخويها اللذين قتلا بعد ذلك: شاهباز بوتو الذي قتل في ظروف غامضة في جنوب فرنسا، ومرتضى الذي قتل على أيدي رجال الشرطة في كراتشي في ظروف لا تقل غموضاً.

وعلى غرار الأسر السياسية الكبرى في شبه القارة الهندية (أسرة غريمتها إنديرا غاندي مثلاً)، لم ينتظر حزب الشعب الباكستاني الذي أسسه والدها الراحل كثيراً، قبل أن ينتخب ابنها بيلاوال سرداري زعيماً للحزب الذي يمثل المعارضة العلمانية المتنورة في باكستان، قبل أن يصبح هناك فراغ في الحزب الذي أخذ وهجه من زعيمته ذات الكاريزما الطاغية، ما مكنها أن تكون أول امرأة تتسلم منصب رئيسة الوزراء في باكستان.

وإن كان اختيار ابنها زعيماً للحزب الذي أسسه جده ليواصل قيادته، تحت وصاية لجنة سياسية من قادة الحزب، جاء قطعاً للطريق على أي تقولات عن انتهاء حزب الشعب بموت زعيمته الكاريزمية، فإن اختياره جاء أيضاً في ظروف يحظى فيها الحزب بتأييد وتعاطف قويين، حصل عليهما من خلال نضالاته السابقة، وبخاصة ضد ديكتاتورية الجنرال ضياء الحق ومن بعده برفيز مشرف، وكذلك من خلال الموت المأساوي لزعيمته الراحلة. ولن يضير حزب الشعب كثيراً أن هذه الخطوة قد اتخذت قبل أن يحسم الجدل حول الجهة الضالعة في اغتيال بوتو؛ وهو جدل تمحور حول نظريتين تمثل كل منهما وجهة نظر طرف مهم في المعادلة السياسية الباكستانية، هما: جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية ومسلحو تنظيم القاعدة.

والاختلاف بين النظريتين ليس شكلياً على أي حال، فالنظرية التي تلمح إلى ضلوع القاعدة في عميلة الاغتيال هي تلك التي تبنتها الحكومة تحديداً، وسارعت إلى إطلاقها وتعميمها بسرعة كبيرة، على الرغم من أنها لم تشر حتى الآن إلى الجهة التي كانت وراء اغتيال بوتو في تشرين الأول/أكتوبر الماضي غداة عودة الأخيرة من منفاها الاختياري. ويرى كثير من المراقبين أن مسارعة الحكومة إلى إعلان الجهة المسؤولة عن مقتل بوتو، إنما يهدف إلى إبعاد الشبهة عن القاتل الحقيقي الذي يرجح أن يكون أحد عناصر جهاز الاستخبارات الباكستانية، من هنا تتخذ اتهامات حزب الشعب الذي يتبنى هذه النظرية أهميتها، وبخاصة بعد أن بث شريط مصور لرجل يطلق الرصاص على بوتو، ما يعزز نظرية حزب الشعب.

من المعروف أن جهاز الاستخبارات الباكستانية المعروف باسم (آي إس آي)، قد تحول إلى قوة ذات نفوذ في الحياة السياسية الباكستانية في عهد ضياء الحق الذي كان أول من بدأ عملية “أسلمة” السياسة في باكستان التي كانت حتى ذلك الحين علمانية حتى لو كانت تحت حكم العسكر. وفي عهد ضياء الحق أيضاً حدث التداخل الذي ما زال قائماً بين القوى الإسلامية وبين الحكم في باكستان، الذي كان جهاز الاستخبارات الباكستانية أوثق حلقات هذا التداخل.

وبسبب هذا التداخل تحديداً كان من الصعب على الرئيس الحالي مشرف أن يتخذ قراراً حاسماً بالتصدي للحركات الإسلامية المرتبطة بالقاعدة وطالبان في أفغانستان، والاكتفاء بدلاً من ذلك بعقد معاهدات مع زعمائها.

وقبل ذلك، كان هذا التداخل هو الذي أملى على بينظير بوتو نفسها أن تغض الطرف عن المدارس الدينية التي تكاثرت في عهد ضياء الحق رغم تصريحات سابقة ضدها، وأن تساهم في دعم حركة طالبان التي انبثقت من هذه المدارس، وأن تسلحها؛ فمن المعروف أن الحركة المذكورة قد أنشئت بدعم باكستاني عام 1994، وتحولت بفضل الدعم الباكستاني نفسه إلى قوة عسكرية كبيرة عام 1996، وهو عام استيلائها على أفغانستان. وأن ذلك تم في عهد بينظير بوتو. وهو ما لم تنفه على أي حال، وقالت في هذا المجال إنه كانت هناك “ارتباطات سياسية بالحركة، ولكن لم تكن هنالك أي ارتباطات عسكرية.”

وبالتأكيد، فإن هذا ليس هو السبب في نفي ضلوع الحركة في مقتل بوتو من جانب حزب الشعب، كما أنه ليس السبب في أن زعيم القاعدة في باكستان بيعة الله محسود قد أكد بأنه لم يستهدف بوتو “لأن للحركة مبادئ منها عدم قتل النساء.” بل يعود إلى أن هنالك في الأوساط الاستخبارية الباكستانية من لا يريد عودة بوتو التي ستعمد إلى فك التداخل الناشئ بين رجال الاستخبارات الباكستانية وبين القاعدة، وهي معركة على درجة كبيرة من التعقيد، ربما كان على بيلاوال بوتو، باعتباره خليفة والدته أن يخوضها، أو أن يؤجلها لأنها فوق قدراته، هو الطالب في جامعة أوكسفورد، والذي تبع والدته في الدراسة في الجامعة العريقة قبل أن يتبعها في زعامة حزب الشعب، وربما باكستان بأكملها، بما فيها من فوضى واضطراب لم تشهد مثلهما منذ تأسيس الدولة عام 1947.

لقد عادت بينظير من منفاها لتنقذ بلادها من فوضى متفاقمة، كان السبب الرئيسي فيها اتخاذ برفيز مشرف عدداً من الخطوات الحمقاء التي انتهت به رئيساً للبلاد من دون بزته العسكرية، وبالتالي من دون نفوذه السابق في داخل المؤسسة التي انحدر منها، ولكنها قتلت في خضم الفوضى التي جاءت لتخمدها، تاركة بلادها نهباً للصراع بين ثلاثة أطراف أساسية: النظام العسكري الذي يحكم سيطرته على البلاد تاريخياً، والأحزاب السياسية ذات المصالح المتضاربة وأحياناً المتناحرة، والقوى الإسلامية المتشددة التي ما زالت تحتفظ بروابطها الوثيقة مع العسكر.

بوتو ذهبت ضحية فوضى جاءت لتخمدها باكستان ساحة صراع مفتوحة بين العسكر والسياسيين والقاعدة – صلاح حزين
 
03-Jan-2008
 
العدد 8