العدد 48 - أردني
 

عدي الريماوي

تجلس أمام التلفاز، تشاهد الفتاوى تمر أمام عينيك في شريط الرسائل القصيرة أسفل الصورة. تقود السيارة فتستمع إلى أحد رجال الدين يصدر فتاواه عبر الإذاعة. تتصفح مواقع على شبكة الإنترنت، فتشاهد إعلانات للمواقع الدينية المختلفة، لقد أصبحت البرامج الدينية تملأ الأثير، وملأ رجال الدعوة بأصواتهم وبصورهم وفتاواهم الوسائل الإعلامية المختلفة، فتشكلت لهم جماهيرية كبيرة لا تقل عن جماهيرية برامج العائلة الترفيهية، وهذا يبدو واضحاً من عدد القنوات الدينية المنتشرة على الفضاء العربي، ونجاحها في جذب أعداد كبيرة من المشاهدين، وتحقيقها نسب عالية من المشاهدة في استطلاعات الرأي.

في الأردن، بدأ تقديم الفتاوى عبر وسائل الإعلام منذ أوائل التسعينات عندما كانت إذاعة القرآن الكريم تبث برنامجاً يومياً لتقديم فتاوى على الهواء مباشرة، وكان البرنامج يجذب مستمعين من أطياف متعددة. وفي الإعلام المرئي كان التلفزيون الأردني يقدم البرنامج الديني "اسألوا أهل الذكر"، الذي كان يتطرق للأحكام الشرعية في مواضيع الحياة المختلفة، ويذكر مقدم البرنامج نسيم أبو خضير، أن البرامج بدأ قبل خمس سنوات، ويلاقي إقبالاً كبيراً، من الجمهور الذي يسعى لمعرفة الأحكام الشرعية. "تتعلق معظم هذه الأحكام بالمسائل الاجتماعية مثل الطلاق والمواريث، إضافة إلى قضايا مثل السحر واللباس، ولقد تم من خلال البرنامج طرح قضايا معاضرة مثل استئجار الرحم والاستنتساخ".

ومن خلال الإذاعات الخاصة التي انتشرت في المملكة، يذكر أحمد حوى، الذي يقدم برنامج "إفتاء على الهواء" في إذاعة حياة الدينية، أن إقبال الناس على طلب الحكم الشرعي في أفعال الحياة اليومية بدا متزايداً، وأن هناك كثيرا ممن يبحثون عن فتوى دينية قبل الإقدام على عمل ما، وهذا يبدو واضحاً من خلال مشاركة الناس الكثيفة في البرامج الدينية عبر الوسائل الإعلامية. ومع الحرية التي أصبحت متاحة للمشاركين في مثل هذه البرامج، ظهر كثيرون ممن يوجهون أسئلة خاصة لا تصلح للعرض أمام الناس، ويعلق حوى عن الأسئلة التي تسأل عن بعض التفاصيل الحميمة بين الأزواج بالقول: "على المشرفين على الإذاعات أو المواقع الإلكترونية، مراقبة مثل هذه الأسئلة، وعدم إيراد ما يتجاوز حدود الأدب منها." ولكنه في الوقت ذاته يشير إلى ضرورة تحقيق توازن بين عرض هذه القضايا الحساسة وحاجة الناس لبيان الحكم الشرعي فيها، "فعلى المفتي الالتزام بحدود الأدب والذوق العام عند استجابته للأسئلة المختلفة". ويضيف أن الإقبال، عبر الإذاعة، ما زال متواضعاً، فعدد الاتصالات والرسائل القصيرة لا يتجاوز الخمسين في هذا البرنامج، والذي يستغرق بثه ساعة، مشيراً إلى أن الناس يلجأون إلى وسائل أخرى للبحث عن أجوبة، فيذكر أن زميلاً له في دار الإفتاء قال إنه كان يرد قرابة ألف سؤال يومياً في الأيام الأخيرة من شهر رمضان الماضي.

مع انطلاق ثورة الاتصالات والازدياد الكبير في أعداد القنوات الفضائية، بدأت القنوات الدينية تنتشر في صورة كبيرة في السنوات الأخيرة، فقناة "اقرأ" التي انطلقت قبل نحو عشر سنوات، تقدم برامج دورية للإفتاء، ويشابهها في ذلك قناة "الرسالة" التي بدأت بثها قبل خمس سنوات، وتشترك هاتان القناتان في استضافة رجال دين يوصفون بالمعتدلين، بإطلاقهم لأحكام تحقق مقاصد الشريعة وتراعي الظروف الحالية، ويتوخون الحذر قبل إطلاق فتاواهم. وتقدم المحطتان الأحكام الدينية التي تناقش حياة الناس اليومية، مثل أحكام المعاملات المختلفة من بيع وشراء، وأحكام اللباس والزينة. في حين أن قناة "المجد" المعروفة بتوجهها السلفي، تستضيف في برامجها كثيرا من مشايخ جزيرة العرب المشهورين بتشددهم، الذي يظهر من خلال تقديمهم لتفسيرات متطرفة لنصوص القرآن والسنة، وعدم الالتفات لتطورات الحياة المعاصرة، وكثيرا ما يظهر على شاشة "المجد" الشيخ محمد المنجد، الذي اشتهر بفتاواه المتشددة، مثل حرمة النظر إلى الموظفة في العمل.

مع دخول شبكة الإنترنت في جميع مناحي الحياة، أصبحت هذه الشبكة ساحة جديدة لإطلاق الفتاوى، فبدأ كثير من المواقع التي تقدم الفتاوى بشكل دائم تتخذ من شبكة الإنترنت ساحة لنشاطها، وفي مقدمتها الموقع الإسلامي الشهير islamweb.net، الذي يضم في موسوعة فتاواه أكثر من 85 ألف فتوى، منظمة في صورة دقيقة ومصنفة ضمن أبواب متعددة، مثل العبادات والمعاملات والمواريث، إضافة إلى الخوض في المواضيع "الدنيوية" من سياسة وفن وفي اللباس والزينة، وهناك صفحة تبين آلية الفتوى ومنزلتها في الإسلام. وهناك أيضا موقع islamway.net، الذي يحتوي على 20 ألف فتوى يقدمها أكثر من 60 مفتيا وعالم دين، ويحظى هذا الموقع بإقبال شديد، فهو يستقبل أكثر من 200 فتوى يومياً، إجابة على أسئلة الناس المتعلقة بشؤون الدين والدنيا.

ولكن مواقع شبكة الإنترنت، مثلها مثل المحطات الفضائية، لا تعتبر مرجعا موثوقا فيما يتعلق بالفتوى، وكثيرا ما تجد فيها فتاوى غريبة وغير دقيقة. ويذكر أحد أساتذة الشريعة أن طالبة له قد نهضت في أثناء محاضرة لتعاتبه على شربه للبيبسي، وقالت إنها قرأت على أحد مواقع الشبكة فتوى بتحريم شرب البيبسي لكونه من البضائع الأميركية الواجب مقاطعتها!.

يقول الإعلامي محي الدين قطب، إن انتشار هذه الوسائل لتقديم الفتاوى لا يعود بالفائدة دائماً، فكثير من هذه القنوات والمواقع تسعى للربح التجاري، وهي تركت الغاية من الإفتاء، واتجهت إلى الأرباح، التي تحققها من الإعلانات ومن شريط الرسائل القصيرة الذي يتواجد على شاشاتها. "الفتوى يجب أن تأخذ في الاعتبار الظروف المحيطة بالفعل قبل إصدار الحكم، فاختصارها في جملة واحدة عبر الرسائل لا يفي بالغرض، والفتوى تكون خاصة لكل شخص، فلا يجوز أخذ فتوى أصدرت لشخص آخر".

ويشير إلى ظهور ما يسميه "الاتكالية في الدين"، ويقصد بذلك أن كثيرا من الناس تركوا السعي للتعلم والتثقف، لاعتمادهم على العلماء للحصول على فتاوى، وذلك لرغبتهم بتحميل مسؤولية أفعالهم إلى المفتي، وفي رأيه أن هذا هو السبب في أن معظم السائلين يكونون في العادة من كبار السن الذين لم يحصلوا على تثقيف ديني كاف في أواسط القرن الماضي، ويكونون بذلك قد ألقوا عن كواهلهم المسؤولية قائلين "الشيخ هيك حكى.." أما الشباب فهو يرى أنهم يميلون إلى أن يضعوا تصورات خاصة لأنفسهم، وأن يبحثوا بأنفسهم عن الأحكام الشرعية التي تناسبهم. كما يذكر لنا مصعب الذي يرتاد المسجد منذ صغره "يميل الشباب الآن إلى استخراج الأحكام بأنفسهم، من خلال قراءاتهم أو سؤال زملائهم، إذ أنه من المفروض أن يكون الجميع عالماً بأمور دينه، وقادراً على إيجاد الحكم الشرعي بما هو مقبل على فعله".

مع تزايد فوضى الفتاوى وانتشار المعلومات بشكل خاطئ وسريع بين الناس، ووجود فئات من العلماء تسعى لتجهيل الناس والعودة بهم أزماناً إلى الوراء، فبدت الآن الفتاوى كما لو كانت بضاعة، أدى ازدياد الطلب عليها وقلة المعروض الجيد منها إلى خسارة الجميع.

**

فتاوى خليوية!

إلى جانب جميع هذه الوسائل للحصول على الفتوى، ظهرت هناك خدمة الرسائل القصيرة التي يبعث من خلالها الشخص بسؤاله إلى الرقم المطلوب، ويحصل على الإجابة خلال يوم أو يومين. وتتوافر هذه الخدمة في الأردن من خلال دار الإفتاء التي تمكن المواطنين من إرسال أسئلتهم ليحصلوا على إجابات عليها. وهي متوافرة أيضا في بعض الدول القريبة، التي تضع 24 ساعة كحد أقصى لإرسال الإجابات.

وفي بعض الدول العربية، مثل الإمارات العربية المتحدة، فإن مراكز الإفتاء الرسمية توفر ما هو شبيه بـ"Call Center" لاستقبال الفتاوى، ويقدر عدد المكالمات التي يستقبلها مثل هذا المركز بما يزيد على 3 آلاف مكالمة يومياً كما تصرح تلك المراكز، ما حدا بالهيئة لرفع عدد الخطوط الهاتفية وزيادة أعداد المفتين. وتتوافر مثل هذه الإجابات بلغات أخرى مثل الإنجليزية والأوردية، وتسعى مراكز الإفتاء، من خلال أرشفة هذه الكم الكبير من الفتاوى، إلى إصدار موسوعة فتاوى في الفترة المقبلة. وتوفر معظم هيئات الإفتاء في الوطن العربي عبر مواقعها الإلكترونية، قسماً لتسجيل هذه الفتاوى ونشرها على شبكة الإنترنت، التي تعتبر المصدر الأكبر للحصول على جميع أنواع الفتاوى.

**

الإفتاء السني

يعتبر أهل السنة أن كل مسلم يجب عليه أن يستفتي نفسه، فو يكون على قدر من العلم والثقافة بدينه، فيكون قادراً على استخراج الأحكام الشرعية بنفسه لقول الرسول: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك".

وفي طبيعة الفتوى كما يذكر موقع islamweb.net بأن المفتي خليفة النبي في أداء وظيفة البيان، وهو العالم بالمسألة التي يفتي فيها، تأسيسا لا تقليداً، مع ملكة في النظر ، وقدرة على الترجيح والنظر المستقل في اجتهاد من سبقوه، لا مجرد نقل وحكاية الأقوال. فإن أقدم على الفتوى بمجرد ما يغلب على الظن فهو آثم وعمله محرم، وقول على الله وعلى رسوله بغير علم، وهو يتحمل وزر من أفتاه. ففي حديث للرسول " من أُفتي بغير علم ، كان إثمه على من أفتاه ". ولا يشفع له أن يكون أصاب الحق في فتوى بعينها، ذلك أن المفتي إنما يفتي بكلام الله تعالى أو بسنة رسوله، أو بالقياس عليهما أو بالاستنباط منهما.

وتعتبر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية، والمسجد الأزهر في مصر، من أكبر المؤسسات القائمة في العالم الإسلامي لتقديم الفتاوى، وتضم في مجالسها أشهر المشايخ وأكبر علماء الدين، إضافة إلى دور ومراكز الإفتاء المنتشرة في جميع الدول الإسلامية.

فتاوى على الهواء: هكذا تكلم الشيخ..!
 
23-Oct-2008
 
العدد 48