العدد 48 - اقليمي
 

داليا حداد

مَنْ يستهدف المسيحيين في العراق؟.

سؤال أقرب إلى اللغز، شرع في طرحه منذ أسبوعين محللون وكتاب وتقارير صحفية، بل لماذا يستهدفون بذاتهم، وهم بعيدون عن أي عمل أو منهج ذي ظلال قاتمة. أيديهم نظيفة، وموقعهم معروف في العراق فهم من أعرق سكان وادي الرافدين، ودورهم التاريخي والحضاري مشهود به، فقد أسهموا إسهاماً فاعلاً في جميع الميادين العلمية والثقافية والسياسية والرياضية التي صنعت نهضة البلد.

التيارات والتنظيمات السياسية في العراق، بما فيها تنظيم القاعدة، أدانت عمليات القتل والتهجير الجماعي التي تعرض لها المسيحيون في الموصل.. واضطهاد هذا المكون الأساسي في العراق ليس وليد الأيام الأخيرة، إذ يعود إلى الأشهر الأولى من بدء الاحتلال الأميركي العام 2003، حين بدأ تكفيريون وظلاميون يشنون حملة شرسة ضد أبناء الطائفة في البصرة وبغداد والموصل، تمثلت في أعمال القتل والخطف والتهجير وتفجير الكنائس أو حرقها (جرى تفجير خمس كنائس في يوم واحد في آب/أغسطس العام 2004، كما تعرض العشرات من رجال الدين للخطف والقتل من قبل مجهولين، ومنهم القس بولص اسكندر في الموصل، الذي عمد خاطفوه الى قطع رأسه ووضعه في وعاء أمام كنيسة في المدينة)، ما أرغم عشرات الآلاف منهم إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم، والنزوح إلى مناطق أكثر أمناً داخل البلاد، أو الهجرة إلى الخارج. وتشير احصائيات موثوقة إلى مقتل نحو 200 شخص، وهجرة نحو 400 ألف مسيحي (بلغ عددهم الكلي في العراق زهاء850 ألف نسمة قبل الاحتلال) إلى الدول المجاورة خلال السنوات الخمس.

بدأت عملية تهجير المسيحيين الأخيرة في الموصل، بحملة توزيع منشورات على الأحياء التي يقطنونها، وحسب صحيفة «الحياة» رافقت تلك المنشورات نداءات أطلقتها مكبرات صوت تنذرهم بالرحيل أو الموت. أعقب ذلك قتل 13 مواطناً مسيحياً، بينهم طبيب ومهندس وصيدلي وعمال بناء وأحد المعوقين، وتفجير ثلاثة منازل في شمال المدينة، مما دفع إلى نزوح نحو 1500 عائلة إلى القرى والبلدات الصغيرة في سهل نينوى. وذكر أحد التقارير الصحفية أن أهالي بلدة «برطلّة» (30 كم شرق الموصل) أقاموا الخيام للعائلات المشرّدة في ملعب رياضي، ولم تبادر القوات الحكومية والقوات الأميركية إلى حمايتها. وقال جورج ميا، عضو رئاسة المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري "عندما بدأت عمليات قتل وتهجير أبناء شعبنا في الموصل يوم 6 و7 من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، قمنا بتأسيس غرفة عمليات لإغاثة وإيواء العوائل التي هُجّرت. ومنذ يوم الثامن من الشهر بدأنا عملنا الميداني، وذهبنا الى جميع المناطق التي توزع عليها أبناء شعبنا، وهي: "قرقوش"، و"قرمليس"، و"برطلة"، و"بعشيقة"، و"بهزاني"، و"تلكيف"، و"تلسقف"، و"بيقوفا"، و"بطنايا"، و"القوش". وحتى الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم 13 وصل عدد العوائل النازحة الى 1280 عائلة، والعدد في تزايد مستمر. وتمكنا من توفير أماكن لهم في الأديرة والكنائس وبعض المؤسسات، وكذلك في بيوت الأهالي، فمن كان لديه فراغ في بيته استضاف عائلة أو عائلتين. كما تم تفريغ المدارس والأندية الرياضية لإيوائهم. وقمنا أولياً بتوزيع مساعدات مالية عليهم لاعانتهم، ونواصل عملنا معهم». أضاف جورج ميا " لانريد توجيه إصبع الاتهام الى أحد بالمسؤولية عما يحدث، تلك نراها مسؤولية الدولة في تحديد من يقف وراء ما يجري، ليس الشعب الذي يُقتل هو من يحقق في من يقتله، بل تلك مسؤولية الدولة في حماية المواطن والكشف عن مؤامرات ترتكب بحق شعب بكامله يتعرض للتهجير".

لكن رجال دين ونواباً في البرلمان العراقي اتهموا جماعات مسلحة في الموصل، في إشارة الى قوات البشمركة الكردية، بتهديد العائلات المسيحية التي تقطن المدينة، وقتل عدد من أفرادها، كما اتهموا التحالف الكردستاني وأحزاباً مشاركة في السلطة بالوقوف وراء الهجمات التي يتعرض لها المسيحيون في الموصل. كما قال أسامة النجيفي، النائب عن القائمة العراقية، إن مواطناً من الموصل أكد هذه المعلومات للوكالة العراقية المستقلة بقوله: "إن مليشيات البشمركة الكردية تقف وراء التهجير الإجباري للمسيحيين في الموصل». أكد النجيفي: «أن إخراج الميليشيات الكردية من مدينة الموصل هو الحل الوحيد لإنهاء مشكلة نزوح المسيحيين».

وبينما حمّل مسيحيون، في تحقيق نشرته «التايمز» اللندنية، مسؤولية هذه الأعمال لتنظيم القاعدة، اتهم مسيحيون آخرون عناصر كردية بهذا السلوك كجزء من تدبير سياسي لدفع الأقليات الدينية إلى تأييد الأحزاب الكردية قبل انتخابات المحافظات المقبلة في العراق. ونقلت الصحيفة على لسان سيدة عمرها 69 عاماً، اقتحم بيتها عشرة الى اثني عشر رجلاً، ثم فجروه بعد أن أجبروا سكانه على مغادرته، «أن اللغة العربية التي كانوا يتكلمون بها غير واضحة وبدوا مثل الأكراد».

وأكد نور الدين الحيالي، النائب عن جبهة التوافق من محافظة نينوى، لـ"راديو سوا" أن أطرافاً سياسيةً تقف وراء تهجير المسيحيين من الموصل بغية تشكيل منطقة حكم ذاتي خاصة بالمسيحيين في نينوى وتجزئة المحافظة. أما النائب المسيحي في البرلمان يونادم كنا، عضو اللجنة الحكومية لتقصّي الحقائق عن عمليات التهجير، فقد ذكر أن اللجنة اطّلعت ميدانياً على واقع العوائل المسيحية المهجّرة في سهل الموصل، وأكد على وجود مؤشرات تدلّ على أن بعض القطعات العسكرية الموجودة في المحافظة كانت متواطئة مع العناصر المسلّحة، ولم تتّخذ الاجراءات اللازمة لحماية العوائل المسيحية.

السلطات الرسمية في محافظة نينوى سارعت إلى تحميل تنظيم القاعدة مسؤولية ما حدث، ففي تصريح للمحافظ دريد محمد كشمولة قال: "المجرمون من أذناب القاعدة يتحملون مسؤولية تهجير المسيحيين". واتهم قائمقام الموصل زهير الأعرجي، المعين من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يتزعمه مسعود البرزاني،  تنظيم القاعدة بالوقوف وراء استهداف المسيحيين في المدينة، ووعد بإجراء تحقيقات دقيقة وسريعة واتخاذ إجراءات حازمة بشأنها. ورفض الأعرجي الاتهامات الموجهة إلى البشمركة الكردية، قائلاً: "الأكراد هم حماة الموصل الحقيقيين، وهم من دافع عن أبناء المدينة، والاتهامات الموجهة اليهم تنطلق من عقلية شوفينية وبعثية".

وشدّد محسن سعدون، النائب في التحالف الكردستاني عن نينوى، على أن القاعدة، وما يسمى بدولة العراق الإسلامية، يقفون وراء تهجير المسيحيين من الموصل:

«ليس من الممكن أن يفكر التحالف الكردستاني في يوم ما بتهجير المسيحيين من مدينة الموصل إلى سهل نينوى، فذلك يشكل حملاً ثقيلاً على التحالف الكردستاني وعلى أقليم كردستان. إذا كانت هنالك هجرة سيتطلب ذلك مساعدات وخدمات، لذلك من مصلحة التحالف الكردستاني وإقليم كردستان بقاء المسيحيين في الموصل".

في رده على الاتهامات أنكر تنظيم القاعدة، في بيان نشر في أكثر من موقع على الإنترنت، أية علاقة له بالحملة الدموية ضد المسيحيين، قائلاً: «لدى القاعدة دليل على أن المليشيات الكردية هي المتورطة بحملة تهجير المسيحيين وقتلهم بغية السيطرة على أجزاء محددة من محافظة الموصل".. وقد أكد هذا الإنكار تصريح اللواء الركن عبد الكريم خلف، قائد عمليات وزارة الداخلية العراقية والمتحدث الرسمي باسمها، عندما استبعد ضلوع التنظيم في الهجمات التي تستهدف مسيحيي الموصل. وقال: «لدى الوزارة معلومات مهمة حول الجهات التي تقف وراء تلك العمليات الإجرامية، وتوصلت الى نتائج مهمة سوف تعلن قريباً».

وجاء تصريح خلف إثر تعهد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي باتخاذ إجراءات عاجلة، لحماية المسيحيين وإعادتهم إلى منازلهم. ومن تلك الإجراءات اتخاذ تعزيزات أمنية تتمثل بنشر نحو ألف من قوات الشرطة في المناطق التي جرى تهجيرهم منها. لكن المتحدث باسم وزارة الدفاع اللواء محمد العسكري أعلن، خلافاً لما صرح به المتحدث باسم وزارة الداخلية، عن اعتقال عشرة مطلوبين من عناصر القاعدة، بينهم سوري الجنسية في الموصل، وصفهم بالعقول المدبرة لاستهداف المسيحيين وتهجيرهم. وبحسب العسكري، فإن العملية نفذت في حي الزنجيلي، وقد تم خلالها العثور على تسع عبوات ناسفة وأكثر من مئة قطعة سلاح.

يعزو كثيرون في العراق الاعتداءات على المسيحيين في الموصل، إلى نزول المئات من أبناء الطائفة الى شوارع بغداد والموصل في الأسابيع الأخيرة للاحتجاج على إلغاء المادة 50 من قانون مجالس المحافظات التي كانت تمنح للأقليات حصةً في هذه المجالس. هذا يعني أن أحزاباً في السلطة قد تكون أرادت ترويع المسيحيين وإرهابهم، لفرض إرادتها لتحقيق مصالح وأطماع سياسية، وتنفيذ أجندات لمحاولة السيطرة على الموصل، ضاربةً عرض الحائط بالديمقراطية والدستور الذي يضمن حق الأقليات في التمثيل ضمن مجالس المحافظات.

**

سطور من تاريخهم

المسيحيون العراقيون جزء لا يتجزأ من الشعب العراقي ومكوناته، فقد سبقوا الجميع في استيطان العراق من آلاف السنين، وعاشوا جنباً الى جنب مع بقية المكونات العراقية على مر العصور. عاشوا عراقيين أسوةً بغيرهم من المسلمين، ذاقوا حلاوة العيش ومرارته، أسهموا في بناء وطنهم، وضحوا من أجله حالهم حال أغلب العراقيين. لم يسبق أن كانوا هدفاً للقتل أو التهجير أو التفرقة الدينية، بل كانت كنائسهم وطقوسهم الدينية وثقافتهم محط احترام على مر الزمان. من أبرز شخصياتهم الذين أسهموا في نهضة العراق:

- الياس بن حنا الموصلي: أول رحالة من الشرق كله يصل إلى أميركا في القرن السابع عشر.

- اقليمس يوسف داود: العلامة الموصلي الشهير في القرن التاسع عشر، الذي ألّف (85) كتاباً في مختلف المعارف.

- هرمزد رسام: الآثاري الذي كشف عن كنوز آشورية في نينوى وخرسباد والنمرود، وكان ضمن فريق بعثة لايارد الشهيرة في القرن التاسع عشر.

- أدي شير: العلامة والمؤرخ الكبير في القرن التاسع عشر، الذي كان يتقن عدة لغات شرقية وغربية، ونشر أغلب مؤلفاته بالفرنسية، وبعض مقالاته في المجلة الآسيوية.

- حنا حبش، نعوم فتح الله سحار، وحنا رسام: الرواد الثلاثة الذين ادخلوا الفن المسرحي إلى الثقافة العراقية، في أواخر القرن التاسع عشر.

- انستاس ماري الكرملي: العلامة اللغوي الذي أصدر مجلته الشهيرة (لغة العرب).

- روفائيل بطي: رائد النقد الأدبي في العراق.

- بولينا حسون: أول امرأة عراقية تصدر صحيفة نسوية ببغداد.

- فؤاد سفر، وبهنام أبو الصوف: من أبرز علماء الآثار.

- جميل بشير وأخوه منير بشير، وبياتريس أوهانسيان، وفريد الله ويردي: من أبرز الموسيقيين.

- سلطانه يوسف، وزكية جورج، وعفيفة اسكندر: من أشهر المطربات.

- عمو بابا، وشدراك يوسف، وكوركيس إسماعيل: من أشهر الرياضيين.

- فريال جبوري غزول: الناقدة المعروفة، ورئيسة تحرير مجلة «ألف» التي تصدر عن الجامعة الأميركية في القاهرة.

- سركون بولص ويوسف الصائغ: الشاعران البارزان.

- عوني كرومي: المخرج البارز، الذي يُعد أفضل من قدّم منهج بريخت في المسرح العربي.

دور نهضوي لأعرق سكان وادي الرافدين: محنة التنكيل بالمسيحيين العراقيين
 
23-Oct-2008
 
العدد 48