العدد 48 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

تأسرك بدفء أمومتها وابتسامتها الحنونة، تستعيد ما استطاعت يفاعة ياسمين نابلس، يتكئ حزيناً على جدران حاراتها العتيقة.

ولدت هيفاء ملحس البشير، في انحدار حارة «العقبة»، بعيد اندلاع الإضراب العام الكبير في فلسطين العام 1936، وفتحت عينيها على معاناة وطن يرقد تحت الاحتلال البريطاني، ومؤامرة إقامة «وطن قومي لليهود» على أرض شعب آخر.

الفتاة المتميزة بدراستها في مدرسة العائشية، نشأت في أسرة محافظة، تعهدتها أم قديرة «حين أنظر الآن للوراء، أدرك أن أمي سبقت أساليب التربية الحديثة في تنشئتها لنا».

تحول مهم في حياتها حدث عند اختيارها العام 1946 للدراسة في كلية معلمي القدس، التي كانت تختار المتميزات من الفتيات.

كان مفترضاً أن تبقى في الكلية ثلاث سنوات تتقدم بعدها لامتحان المترك الفلسطيني، من ضمنها سنة أخيرة للتدرب على مهنة التعليم، غير أن حرب 1948 داهمت أحلامها، وشتتها وزميلاتها، من ضمن من شتت، بسبب إغلاق المدرسة التي كانت تقع في منطقة «مشيرم» وسقطت في قبضة اليهود.

بعد الموجة الأولى لإعصار النكبة الذي كانت موجاته تتتالى، دعيت لتقديم امتحان المترك في مدينة نابلس على ورق أعد في قبرص، وجرى التصحيح هناك. «تطوعت طائفة من معلمات ومعلمي القدس لمساعدتنا في دراستنا منهم : عبلة الناشف، والسيد قطان، والدكتور عدلي البيطار».

من زميلاتها في كلية معلمي القدس، صبحية المعاني (العين السابق 1997 - 2005 ووالدة أمين عمان)، ليلى النجار (رئيسة اتحاد الشابات المسيحيات سابقاً)، وسميرة فضلي، وحلوة ملحس، وأخريات و«جميعهن من التربويات العريقات».

عملت في التدريس لأربع سنوات في مدرستها العائشية، إلى أن أتى النصيب مع الطبيب السلطي محمد البشير الذي حط رحاله حيث «جرزيم وعيبال». فتعين عليها فور خطبتها الاستقالة من التعليم.

والسيارة تنهب الطرقات الصاعدة إلى أعلى، شرقي النهر، في طريقها إلى مدينة السلط حيث أقامت بعيد زواجها، أمكنها أن تتملى طويلاً في تلك النقلة بين مدينتين، لطالما جمعتهما أواصر الود والمصاهرة.

بعد مضي أكثر من عام على زواجها، وابنها البكر مازن يحبو، احتاجت مدرسة السلط معلمة للغة الإنجليزية، فلبت نداء الواجب رغم أن الأعراف كانت تمنع عمل المرأة المتزوجة. «استغربوا كيف تسارع زوجة طبيب مكتف مادياً، ولديها طفل للعمل في المدرسة الثانوية للبنات، لكني ضربت عرض الحائط بكل ذلك، فقد كنت مؤمنة برسالة التعليم وسمو المهنة».

تذكر من طالباتها «أحلام العزب، ونادرة قبعين» كما تذكر مبادرتها لأول عمل إنساني بمساندة جمعية المرأة العربية، ومبرّة الأمير عبدالله للأيتام، وعملها خلال العطلة الصيفية في إدارة مدرسة للجمعية الإسلامية.

لم تكن ابنة جبل النار، بعيدة عن الأحداث السياسية التي عصفت بالأردن في سنوات الخمسينيات، وشاركت مع زميلاتها والطالبات في التظاهرات التي خرجت منددة بحلف بغداد.

ازداد ثقل أحمال هيفاء بمجيء خمسة آخرين من أبنائها: «عبد الرحمن، وعوني، وبلال ثم التوأمان صلاح الدين وعامر»، في غضون ثمانٍ سنوات، ما اضطرها للانتقال من المدرسة الثانوية للبنات الى أخرى ملاصقة لبيت العائلة.

اضطرت لترك التدريس مطلع الستينيات، فقد كان من «سياسة وزير التربية في عدة حكومات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إقصاء النساء عن التدريس، عبر نقلهن إلى أماكن بعيدة عن أماكن سكناهن. نقلت إلى الكرك، ولم يكن ممكناً أن أقبل، فقررت التفرغ لأسرتي».

دأبت الأسرة التي صارت كبيرة،على تمضية يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع في نابلس على مسافة ساعة وربع الساعة من السلط، وأصبح تقليداً أن تصلي العائلة آخر جمعة من شهر رمضان في الحرم القدسي. «نكبة حرب حزيران قصمت ظهري وآلامها لا تنتهي».

انتقلت العائلة للإقامة في عمان في العام 1966 بعيد تعيين الدكتور البشير مديراً إدارياً في وزارة الصحة، واستقر بها في جبل الحسين، وانتقل الأولاد لإكمال دراستهم في الكلية العلمية الاسلامية.

المرة الوحيدة التي افترق الأب عن عائلته كانت غداة سفره الى مصر لإكمال دراسته في الطب الشرعي، وهي الفترة ذاتها التي كانا يبنيان فيها بيتاً في الشميساني بقرض مصرفي، سكنت العائلة فيه بعد أن آب الى أرض الوطن، لكنها لم تكد تهنأ بالعيش به حتى اندلع أيلول 1970. فأقامت العائلة في ملجأ عند جيران لهم، وأمكنها أن تلحظ بعينها المدققة مدى تحاب الجيران وترابطهم الكبير.

شجعها زوجها على الانخراط في العمل الاجتماعي والإنساني وتأسيس جمعية لمساندة مهنة التمريض.

جاء البشير، وزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء في حكومة وصفي التل التي تشكلت نهاية العام نفسه. ثم وزيراً للصحة في العام الذي تلى. فوزير مواصلات في حكومة اللوزي العام 1972.

بتشكيل حكومة مضر بدران 1976، جاء البشير وزيراً للصحة، وبعد عام خيم الحزن على العائلة حين قضى نحبه في حادث الطائرة الذي أودى بحياة الملكة علياء، في طريق العودة من زيارة الى مستشفى الطفيلة بتاريخ 9-2-1977. «مر يومها ظهراً على غير عادته على البيت، ففرحت به وهممت بتقديم طعام الغداء، لكنه اعتذر قائلاً: «أخشى أن يعتريني النعاس إذا أكلت، وأريد أن أكون في كامل نشاطي. غادر المنزل وأنا أرافقه لغاية الشرفة. كانت آخر مرة أراه فيها».

دار الحزن بالعائلة.. وما زالت صوره حسرة في القلب.

أمّ الملك الراحل الحسين بيت العزاء في اليوم التالي، كما هو الحال في الذكرى السنوية الأولى. «من يومها، لم أطلب مقابلة جلالة الملك إلا وأفرد لي حيزاً».

وفاة الزوج شكلت ضربة قوية للسيدة التي تعين عليها أن تقف وتناضل من أجل أولادها والرسالة التي تحملها. «كنت أتصور أنني لن أقوى على فعل شيء، أحسست أن جزءاً مني قد قطع، وانتهيت».

شيئاً فشيئاً أدركت أن عليها الوقوف على قدميها إلى جانب أولادها، ولم تتركها زميلاتها في العمل الاجتماعي وحدها، ونقلن نشاطاتهن الى بيتها.

واحدة من محطات عمرها، انتسابها في العام 1979 إلى كلية التمريض في الجامعة الأردنية، ولعلها الحالة الوحيدة في تاريخ الجامعة التي قبلت بالمترك، دون أن تضطر لإعادة التوجيهي، لدورها في مساندة مهنة التمريض على مدى سنين،حازت البكالوريوس في العام 1983، وكانت الأولى على دفعتها.

عملت في العديد من المواقع القيادية منها عضوية اتحاد الجمعيات الخيرية، ورئيسة لجمعيات نسائية منها: الجمعية الأردنية للتأهيل النفسي، والاتحاد النسائي الأردني العام، وجمعية الأسرة البيضاء.

حازت عدة جوائز لكنها تعتز بتقليد الملك عبد الله الثاني لها لوسام الحسين للتميز 2007، وجائزة الأسرة المثالية 2006، من مهرجان دبي للتسوق، حيث تم اختيار أسرتها من بين 500 أسرة عربية تقدمت لنيل الجائزة.

ما زالت بكامل نشاطها، تعطي كل وقتها لعملها، وديدنها البحث عمن يكمل مسيرتها «إذا روحت بدي حدا يكمل، فأمامنا الكثير لخدمة المحتاجين».. تقول بابتسامة دافئة تنير بها دروب الياسمين.

هيفاء البشير: سيرة كفاح ونجاح
 
23-Oct-2008
 
العدد 48