العدد 45 - بورتريه
 

محمود الريماوي

في نهاية العقد التاسع من عمره المديد يبدو "شيخ المؤرخين العرب" في كامل حيويته العقلية، وقيافته الشبابية، متفكراً بعمق في حال الأمة مصغياً لمحدثه مدققاً في كل تعبير يسمعه ويطلقه، محاذراً إطلاق أحكام عاطفية، مشدداً على أنه مؤرخ لا سياسي.

لقد مضت نحو أربعة عقود على إقامة الدوري بيننا، أستاذاً جليلاً ونشطاً في الجامعة الأردنية.. وتتويجاً لعطائه الثر وتقديراً لمستواه الرفيع، منح العام الماضي صفة "أستاذ متميز" وذلك في أول مرة تمنح فيها الجامعة الوطنية هذا اللقب لأحد أساتذتها البارزين، الذي ما زال يستقبل طلبته من معدي الرسائل الجامعية في شقته بشارع المدينة المنورة في العاصمة "ذلك أفضل للطلبة أيضاً، إذ يمكنهم أن ينعموا بوقت أطول.." كما يقول.

زملاء لعبدالعزيز الدوري، منهم الأستاذ علي محافظة، يصفونه بأنه «المؤرخ العربي الأول في القرن العشرين، وقد وضع نظرية حول تكون الأمة العربية قبل الإسلام لم يدحضها أحد وامتاز بدراسته لأثر العوامل الاقتصادية في الحياة الاجتماعية والثقافية»، كما يقول محافظة.

انتقل الدوري الى عمان أواخر العام 1969، بعد أن ضاق بسلسلة الانقلابات التي تعاقبت على بلده وفي العام 1970 التحق بالجامعة الأردنية ولم يستبدل بها منذ ذلك الحين أية جامعة او مؤسسة أخرى، علماً بأنه تلقى عروضاً كثيرة من جامعات مرموقة مثل: جامعة لندن، وجامعة برونستون، والجامعة الأميركية في بيروت، كما لم يستبدل بوطنه الثاني أي بلد آخر في الشرق والغرب (زملاء له يؤكدون عدم تمتعه بالجنسية الأردنية حتى الآن، وأقل ما يقال في هذا الصدد أن متطلبات منح الجنسية تنطبق منذ أمد طويل على شيخ المؤرخين العربي، الذي لا يسعى لمغنم أو أية صفة، ويصنف نفسه مواطناً عربياً).

للدوري مع كوكبة آخرين من رواد العلم في العراق، فضل تأسيس جامعة بغداد العام 1959، وإن كانت بلاد الرافدين شهدت قبل ذلك تأسيس كليات متفرقة، منها مدرسة الحقوق التي نشأت في العهد العثماني. وقد تولى رئاسة الجامعة أواسط الستينيات، إلا أن متطلبات العمل من حوله وحول الجامعة، دفعته لقبول دعوة من الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ زائر في قسم التاريخ، لكنه ظل حريصاً على استمرار صلته القوية بالوطن وبالحياة الأكاديمية والثقافية فيه.

الدوري الذي انصرف للتأريخ، كان يرغب في البدء بدراسة الاقتصاد. توجه مبعوثاً الى المملكة المتحدة في العام 1937، وسعى هناك لدراسة الاقتصاد إلا أن القائمين على جامعة لندن أوضحوا له عدم توافر فرصة له لدراسة ما يرغب، مفسحين له في المجال لدراسة التاريخ، ومن هنا كان قراره بالتخصص في التاريخ الاقتصادي. يذكر الدوري لمحدثه أن مدرساً لبنانياً (عبدالله الحاج) في بغداد حبب إليه في المرحلة الثانوية دراسة الاقتصاد.

يترحم الدوري على مستوى التعليم المرتفع آنذاك "كان أساتذتنا يكلفوننا في السنة قبل الأخيرة من المرحلة الثانوية بإعداد بحوث، ويحفزوننا على القراءة خارج المنهج، فقرأت من بين ما قرأت كتاب (محمد) لمحمد حسين هيكل و (طبائع الاستبداد) لعبدالرحمن الكواكبي".

العام 1943 عاد الدوري الى بغداد بشهادة الدكتوراه، والتحق مدرساً بدار المعلمين، التي خرجت أجيالاً من الأكاديميين والمربين وأهل الفكر والمعرفة. وانكب على دراسة التاريخ ووضع المؤلفات.

الحياة السياسية الصاخبة بما في ذلك حركة محمد رشيد الكيلاني، التي تزامنت عودته الى الوطن مع قيامها، لم تجذبه للعمل الحزبي. "كنت وما زلت مؤمناً أن المؤرخ ينبغي أن يكون مستقلاً عن التيارات الحزبية والسياسية لضمان موضوعيته.كان اتجاهي وما زال قومياً عربياً، على أني لم أنضم الى حزب البعث ولا حركة القوميين العرب ولا التيار الناصري".

ارتبطت بصداقات وعلاقات شخصية مع سياسيين كثر، عراقيين وعرباً. يكن الدوري تقديراً خاصاً للزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي يؤمن بما يقول ويعمل وعلى استعداد للتصويب متى رأى وقوع خطأ في الأداء أو الخطاب.

عبدالناصر بين قلة من القادة يمحضهم الدوري تقديره "الأصل هو أن يخدم الحكام شعوبهم وأوطانهم ولا فضل لأحد إذا أدى واجبه، فذلك هو منطق الأمور.. ولا تستهويني كثيراً مقولة دور الفرد في صناعة التاريخ". مع ذلك تستوقفه شخصيات مثل: غاندي، ونهرو، ونيلسون مانديلا.

يلحظ الدوري غياب مشروع نهضوي قومي، وسريان حالة من التفكك في المنظومة العربية، ويرد بعض أسبابها الى المقولة المغلوطة الشائعة "وحدة مطلقة أو تجزئة مطلقة". وأن هناك أكثر من خيار ثالث صالح مثل تجربة الاتحاد الأوروبي التي استغرقت لإتمامها نحو نصف قرن من البناء والتكامل المنهجيين.في رأيه ان مشاريع الوحدة السابقة ومنها وحدة مصر وسورية في العام 1958 نشأت بصورة عاطفية انفعالية. حال الأمة لا يسره.لكنه يتردد في إطلاق احكام سلبية قاطعة عليه كما درج كثيرون. ويرفض وصف الوضع بأنه "انتقالي" ويتساءل : انتقالي من أية مرحلة لأية مرحلة؟.

في الأثناء يحمّل الدوري الاحتلال الأميركي مسؤولية التدهور الذي يعانيه العراق على غير صعيد، بما في ذلك الانشطارات المذهبية والطائفية والمناطقية واستشراء العنف.

يعتبر ما جرى ويجري بأنه استباحة كاملة. يحاجج أن الاستقطاب الطائفي غريب عن السياق التاريخي لحياة العراقيين عبر العصور. يقول: إن استشراء هذه الحالة حمله على إعادة قراءة فصول في تاريخ العراق، وقد لاحظ أن البويهيين القادمين من بحر قزوين الذين حكموا العراق في القرن الرابع الهجري، قد سيروا آنذاك مواكب للشيعة والسنة في المناسبات الدينية، وبعدئذ اختفى الفرز بين مكونات النسيج الاجتماعي، وتواصلت الحياة المختلطة والمشتركة بين سائر الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب، لا بين سنة وشيعة فقط.

ينفي الدوري أيضاً أن تكون هناك ثقافة سائدة أو تقاليد للعنف السياسي في بلاده، باستثناء العسف الذي مارسته السلطات في حقب مختلفة وألحق الأذى بمختلف شرائح الناس. يشير الى أن الرحالة الذين وفدوا الى العراق في القرن التاسع عشر لاحظوا أجواء من التآلف والتوادد تسود المجتمع، ولم يلحظوا استشراء أو وجود عصبيات.

خلال ذلك يتفحص الدوري من منزله مجريات الأمور بذهن صاف وثاقب. لا يستسلم لضغوط نفسية وردود فعل عاطفية، مترقبا كما يستنتج زائره أمراً ما، سوف ينجلي عنه العصف الذي يشهده موطنه.

عبدالعزيز الدوري: هامش على سيرة “المؤرخ الأول”
 
25-Sep-2008
 
العدد 45