العدد 45 - ثقافي
 

محمود منير

«إلى كل شمري غيور: الرجاء أرسل برقية لأصحاب السمو التالية أسماؤهم طالباً التدخل عاجلاً لوقف مسلسل (سعدون العواجي) منعاً للفتنة». الرسالة تناقلتها صحف ومواقع إلكترونية عربية عن الموقع الرسمي لقبيلة «شمّر»، وكانت كافية ليتخذ رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة آل نهيان، قراراً بمنع عرض مسلسل بدوي كانت تبثه قناة أبو ظبي حصرياً.

«بيان شمّر» أثار جدلاً واسعاً في الصحافة العربية، وانقسم المشهد بين مؤيدين لقرار المنع خشيةَ إثارة عداوات بين قبيلتي «شمّر» و«عنزة»، بسبب تجسيد العمل لصراعاتهما الدائرة في الفترة (1750 – 1830)، وبين مستنكرين للإجراء، يتصدّرهم رجل الأعمال البارز من قبيلة «شمّر»، تركي الراشد، الذي أشاد بالمسلسل واصفاً ما جرى بأنه «ضجيج لا ينم عن شيء».

تساؤلات عديدة تدور حول حملات التحريض على المسلسلات ودوافعها، وهي حملات تستفيد من فضاء إلكتروني فسيح خارج فضاء الإعلام التقليدي، وأسئلة أكثر حول تطور أشكال الرقابة تاريخياً وآلياتها ودوافعها في العالم العربي: فمن حجة المسّ بالثوابت الوطنية و«مسيرة الثورة»، إلى الإساءة لرموز دينية، وصولاً إلى «الاعتبارات القبلية والعشائرية»، لتبقى المخيلة العربية مفتوحة على أشكال جديدة من المنع، بخاصة بعد تحول الدراما إلى مشروع رأسمالي تحكمه قيمه الخاصة.

لم يشفع لمؤلف العمل السيناريست محمد اليساري انتماؤه لـ«شمّر»، ولا محاولاته اليائسة للدفاع عن عمله كمنتج إبداعي يخضع لاعتبارات جمالية وفنية محضة، فاتُّهم العمل بـ«نبش قبور الأجداد، وإعادة الحكايات القبلية في زمن الدولة المدنية» على حد تعبير الكاتب السعودي محمد الرطبان، في مقالة له تم تداولها على نطاق واسع مهّدت على ما يبدو لقرار المنع، أو حفزت باتجاهه.

وليس بعيداً عن «سعدون العواجي»، امتناع فضائية (mbc) عن بثّ المسلسل البدوي «فنجان الدم»، رادّةً ذلك إلى «عدم جاهزية المسلسل فنياً للعرض»، فأرجأت عرضه إلى ما بعد رمضان، ما دفع بطل العمل الممثل السوري جمال سليمان للقول: «الفن العربي يواجه الآن رقابة من نوع آخر، وهي رقابة قهرية بشكل أكبر، تمثلت في رقابة الناس وعقلية المنع عندهم».

سليمان لفت إلى أن منع الجهات الرسمية لعرض العمل الفني، كان في السابق يسهم في رفع قيمة العمل، أما الآن فـ«حين يقال إن العمل يسيء لقبيلة أو طائفة أو مهنة؛ فإنه لا يمكن رفع المنع أو الدفاع عن هذا العمل».

أقوال الفنان السوري ذهبت أدراج الرياح أمام الاعتراض القوي والمسموع لعشيرة الشعلان في السعودية على العمل الذي يصور قصة اختلاف الأخوين «سلمان وشعلان». العشيرة رأت في طرح القصة «تزييفاً للوقائع التاريخية» وإساءة لها. ما أدى إلى تشكيل لجنة مختصة لمشاهدة العمل كاملاً قبل عرضه، وبالتالي الحكم على صلاحيته. أي أن تتم الرقابة بناء على تأويلات شخصية يحكمها مزاج القبيلة، في سابقةٍ لعلها الأولى في تاريخ الدراما العربية.

الكاتب والصحفي محمد يوسف، رئيس جمعية الصحفيين الإماراتيين، وفي اتصال هاتفي أجرته معه «ے»، دافع عن فكرة تشكيل لجنة من هذا النوع، ودعا كل فضائية إلى تشكيل لجنة على هذه الشاكلة من متخصصين يبدون وجهات نظرهم في المسلسلات، مؤكداً أن «السيناريست قد يقع في أخطاء لعدم إلمامه بكل الروايات التاريخية وتأثيراتها في المجتمع».

يرى يوسف أن من حق اللجنة وضع معايير خاصة بها كما، هي الحال في دول غربية، مستشهداً بالمراسلات التي جرت بين المخرج العالمي ستيفن سيلسبيرغ ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر حول فيلمه «رسول من مصر»، وكيف استجاب المخرج لعدد من ملاحظات هيئة الإفتاء حول شخصية النبي موسى عليه السلام.

يوسف أكد أنه ضد الرقابات جميعها، لكن «الواقع يحكم العمل الدرامي»، مشيراً إلى أن صوت القبائل كان مسموعاً ومؤثراً منذ الاتجاه نحو إنتاج مسلسلات بدوية وأعمال خليجية تجسد الواقع الاجتماعي، وهو ما ينسحب على «تدخلات قبلية» في شؤون عامة كثيرة، وذلك للحضور البارز للعشيرة ككيان اجتماعي في جميع دول الخليج.

ولفت إلى أن مسلسل «سعدون العواجي» تناول الصراعات بين قبيلتي «شمّر» و«عنزة»، ما يتطلّب عرضه على لجنة متخصصة. فالقبيلتان تمتدان في تسع دول عربية، وتتسم العلاقة بينهما تاريخياً بـ«الحساسية الشديدة» لما شهدته من حروب وصراعات بينية طيلة قرون، ولم يتحقق الصلح بينهما إلاّ قبل قرن فقط. إضافة للارتباط الوثيق بين هذه الأحداث التاريخية وتشكيل الدول المستقلة في الخليج العربي.

أوضح يوسف أنه لم يطّلع بالشكل الكافي على الإشكاليات التي يتناولها مسلسل «فنجان الدم»، لكنه دعا إلى عرضه على لجنة متخصصة.

وفي رسالة مختلفة عما كتبه بعض أبناء «شمّر»، لكنها تتفق مع فكرة المنع، فجّر الأمير فيصل الأطرش في سورية مفاجأة مدوّية باعتراضه على مسلسل «أسمهان» الذي أخرجه التونسي شوقي الماجري، في مواجهة قصيرة جداً أدت إلى موافقة وزير الإعلام السوري على منع عرض المسلسل.

ثلاثة اعتراضات رئيسية على المسلسل أوردتها رسالة الأمير المطولة وتركزت على ما وصفه «إظهار أسمهان بأنها تفرط بجسدها دون احترام لنفسها من خلال بعض المشاهد»، و«تناول أمور طائفية تثير نعرات وتسيء للموحدين الدروز وشرفهم»، إضافة إلى «إساءات أخرى طالت الأمير فؤاد الأطرش، شقيق الفنانة الراحلة، ووالد فيصل الأطرش».

المحرر الفني في مجلتَي «شرفات» و«شبابلك» السوريتين، الشاعر علي سفر، أشار خلال اتصال هاتفي أجرته «ے» معه، إلى أن مسلسل «أسمهان» لم يُمنع في سورية، فالمنع قرار يُتَّخَذ بسبب مضمون ما أو فكرة ما لا تتوافق مع وجهة نظر الرقيب. وقال: «في حالة (أسمهان) نحن أمام عقدة تاريخية سببها ورثة أسمهان الذين لهم تحفظات على العمل».

نبّه سفر إلى أن المسلسل تبناه المخرج السوري ممدوح الأطرش عبر كتابة السيناريو مع قمر الزمان علوش، وأضاف أن المسلسل تعثر تاريخياً بسبب تحفظات الورثة؛ فقد جاء قرار وزارة الإعلام بمنع عرض العمل أو تصديره من سورية استجابة للتحرك القانوني الذي قام به الورثة، رغم أن المسلسل أُنتج في مصر، وتم تصديره من هناك، وهو يُعرض على الشاشات العربية خلال شهر رمضان.

سفر أكد أن الرقابة على الدراما غير مجدية، ولا يمكن أن تكون مبررة طالما أن الرقيب ذاته يعرف أن ما يمنعه هنا أو هناك سيشاهَد عاجلاً أو أجلاً.

إلى ذلك، أثار قرار منع عرض مسلسل «ناصر» على القنوات المصرية الرسمية جدلا كبيراً، ما دفع مؤلِّف العمل يسري الجندي للقول إن المعيار الوحيد في الاختيار لدى التلفزيون المصري يتعلق بالإعلانات بوصفها المتحكّم الوحيد في عرض المسلسل أو رفضه.

وتساءل الفنان مجدي كامل، الذي جسد شخصية جمال عبد الناصر، عن السر وراء موافقة التلفزيون المصري على عرض مسلسل «الملك فاروق»، بينما يرفض مسلسل عن عبد الناصر، وهل يعد ذلك تحيّزاً إلى عصر الملَكية؟

ما أثار حفيظةَ مخرج العمل باسل الخطيب ونقّاد وفنانون أيضاً، أنه في الوقت الذي رفض فيه وزير الإعلام المصري أنس الفقي عرض مسلسل «ناصر»، وافق على عرض مسلسل «عدّى النهار»، الذي يتناول الأحداث التي سبقت نكسة حزيران وأعقبتها، من وجهة نظر مناهضة لعبد الناصر، ويحمل المسلسل انتقادات حادة ولاذعة لسياساته.

جاءت المفارقة مع ما يمكن وصفه «فرض ذائقة الوزير على الجمهور»، حينما صرح الفقي: «المسلسل ينبغي أن يشاهَد بعناية ودقة، ولا يصح أن نضع زعيماً بحجم عبد الناصر في موضع واحد مع مسلسلات فكاهية وتراجيديا وفوازير وتسالي في شهر رمضان».

مع انشغال الصحافة العربية بمنع المسلسلات الأربعة السابقة، جاء قرار الأزهر بمنع عرض مسلسل «بدر الكبرى» الذي أنتجته قناة «ساهور» السودانية، بسبب تجسيد شخصية الصحابي «حمزة بن عبد المطلب».

قرار الأزهر منعَ ظهور شخصيات آل بيت الرسول في الدراما كان طال أيضاً فيلم «الرسالة» الذي أخرجه السوري (الراحل) مصطفى العقاد قبل أزيد من ربع قرن. وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة متجددة تتعلق بـ«تدخلات» مؤسسات دينية في شؤون الفن والإبداع.

تطور لافت على الرقابة العربية: قبائل تفرض “أحكامها”، ووزراء يحددون ذائقة الجمهور
 
25-Sep-2008
 
العدد 45