العدد 7 - ثقافي
 

ليس من قبيل التقليل من الجهد الذي يبذله القائمون على الصحافة الثقافية في الأردن، ولا من قبيل الاستعراض أو المزايدة، بمقدار ما هو من باب الحرص على هذه الصحافة، مشروعاً ثقافياً قادراً على تحريك المشهد الثقافي العام، وتطويره، والدفع به إلى آفاق جديدة، لم نكتشفها ولم نشكل صورة محددة عنها، ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك أصلاً.

من هنا تنطلق هذه الكتابة. من هذه النقطة تحديداً، لا من سواها. حيث ينبغي للصحافة الثقافية في نهاية المطاف أن تشكل مرآة المشهد الثقافي من جهة، وتوجه حركته ـ إلى حد كبير ـ من جهة أخرى.

فالأصل في هذه الصحافة أينما وجدت، أن تكون موجهة إلى طرفين، الكاتب والمتلقي. والأصل أن تصل الرسائل الموجهة إلى الطرفين معا. وهي رسائل على درجة عالية من الأهمية والنفوذ.

ولكن المتتبع للصحافة الثقافية المحلية، يلحظ هذا الكسل العميم، ما يجعل الصحفي الثقافي يبدو مجرد موظف كأي موظف إداري آخر. فمن دون مبادرات جديدة، ومن دون حراك يومي ودينامية فاعلة، ومن دون بحث عن الجديد والغامض والسري والمخبوء، ومن دون فتح العدسة الثقافية كي تشمل الكون كله، لن تتمكن هذه الصحافة من تحقيق شيء. وستبقى مجرد أوراق يتم نشر بعض المقالات والإبداعات الجديدة عليها، من دون بحث حقيقي عما يحدث بيننا أولاً، وعما يحدث حولنا، عربياً وعالمياً.

فالمشهد الثقافي لا يتم اختزاله في بعض ما تنشره الصحافة من مقالات وإبداعات، بمقدار ما يتم اكتشافه في خلال سجالات ثقافية جادة، تقوم الصحافة الثقافية نفسها بالتأسيس لها، في خلال طرح العديد من القضايا الثقافية المحلية والعربية والعالمية، ومدى انعكاسها على المشهد الثقافي المحلي.

فليس مقبولاً مثلاً، أن يحتفل العالم كله بالذكرى المائة والخمسين لاصدار رواية غوستاف فلوبير “مدام بوفاري”، بينما لا تلتفت صحافتنا الثقافية إلى هذه المناسبة، لا لجهة المشاركة في الاحتفال شكليا، بل لجهة اغتنام الفرصة للخوض في هذه التجربة العالمية، التي على إثرها شاع مصطلح (البوفارية) في الأدب. أي أنه كان يمكن تنظيم حلقات حوارية صحافية، واستكتاب عدد من الكتاب والأدباء والنقاد والمؤرخين، بهدف إلقاء الضوء على هذه الظاهرة، ومدى تمظهرها في السرد الأردني، أو تأثيرها فيه.

والحال ذاتها يمكن تعميمها على العديد من القضايا والظواهر الثقافية والإبداعية.

وبينما تنشط صحافتنا الثقافية في نشر المقالات والأعمال الإبداعية، والتي غالبا ما لا يتم قراءتها إلا في نطاق ضيق، فإننا نلحظ غياباً كلياً أو شبه كلي للتحقيق الثقافي الجاد والعميق، الراكض وراء جوهر الموضوع لا العابر فوق سطوحه. وهو ما ينطبق على الحوارات واللقاءات مع الكتاب والأدباء والشعراء والمفكرين، حيث ينبري لها موظفون في القسم الثقافي، غالباً ما يرزحون تحت بعض المعلومات التقليدية والعامة، الأمر الذي يجعل الأسئلة نفسها مؤهلة للطرح على أكثر من كاتب وشاعر وأديب ومفكر. بينما الأصل أن يتم تكليف من هم على دراية كافية، وإحاطة شاملة، بالعالم الثقافي أو الإبداعي للمحاوَر. أما التحقيقات الثقافية، التي تتناول قضية مهمة، أو ظاهرة لافتة، فيتم الاكتفاء عادة بتكليف أحد الموظفين باستخدام الهاتف، سائلاً بعض الكتاب والمثقفين آراءهم العابرة، من دون منحهم حتى فرصة التقاط أنفاسهم، للتركيز على الظاهرة أو القضية المعنية، كي يتمكنوا من إبداء بعض الملاحظات المهمة والقيمة، بدلا من أن تبدو الإجابات كلها نسخة عامة واحدة، لا اختلاف فيها إلا من باب الاختلاف في طرائق التعبير بين كاتب وآخر.

لقد أتيح لي، ولغيري، أن يقرأ الصحافة الثقافية العربية، ويكتشف التقدم الكبير الذي حققه بعضها، لجهة ولوج عالم الاحتراف، والوصول بالصحافة الثقافية إلى ما هو أبعد من كونها مجرد صفحات تتم تعبئتها كيفما اتفق. وقد أخبرت عدداً من الأصدقاء، كيف تمكنت بعض الجهات الصحافية الثقافية، من الارتقاء بالتحقيق الصحافي، إلى مستوى العمل الإبداعي المدهش، وذلك بالتخلص من نمطية التحقيق، وجفاف مادته، وأسلوبه الذي جرى استقاؤه في السابق من المؤسسة الرسمية البوليسية. اختفى كل من السين والجيم، وتحول التحقيق إلى مادة سردية مشوقة وممتعة، قادرة على جذب القارئ والكاتب معاً، مقدماً أدق التفاصيل في بنية حكائية متماسكة. بينما لا نزال كما كنا على الصورة الباهتة، والجافة، والخالية من أي ملامح لافتة أو مميزة، قادرة على منح الوجه قوة جذب أو تعبير غير التي اعتدناها، وتحولت رماداً بارداً في موقد الصحافة الثقافية.

فمن خبر صغير أو عابر في الصحافة العالمية، يشير إلى اكتشاف ثلاث لوحات مائية للشاعر رامبو، تصور مشاهد لمناطق لبنانية، يتم بناء معمار صحافي ثقافي غاية في الدهشة والمتعة والتماسك، ولا يكتفي بالسؤال والجواب، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، في خلال تتبع مسار حياة رامبو، والرجوع إلى رسائله، للوصول في نهاية المطاف إلى اكتشاف رسام فرنسي كان ضابطا في البحرية الفرنسية، يحمل الاسم ذاته. ولنتصور معا أن هذا التحقيق عربي، بقلم صحفي وشاعر عربي ـ عقل العويط، بينما الفرنسيون يقومون بالاحتفاظ بتلك اللوحات جزءاً من إرث الشاعر! في استطاعتنا، بشيء من الجدية والمتابعة، أن نطور هذا الحقل الشاسع، وبخاصة أن صحفنا لا تنقصها المقدرة المالية والثقافية واللوجستية، فيما لو أرادت ذلك.

أزمة الصحافة الثقافية الأردنية: بين الهواية والكسل والارتجال – يوسف ضمرة
 
27-Dec-2007
 
العدد 7