العدد 7 - ثقافي
 

إذا كانت الثقافة هي القدرة على التفاعل الحيوي مع المعلومة، إن بمعنى القدرة على استنباطها أو دمجها مع معلومة أخرى في خدمة غرض ما، فإن الثقافة هي آلية التأقلم والتطور وسواه من الأفعال الموجهة المجدية. فتعد جدتي الأمية خير مثال على مثقفة ما قرأت أبداً، إذ كانت معلوماتها تخدمها في كل مناحي حياتها، وعاشت بها كفؤة للتطور كما للأصالة. فالثقافة هنا تعنى استخدام المعرفة في خدمة الحياة، بالإبداع والتميز بأنواعه. فهي فعل دائم لا مرتبة تحاز. والفن ضمن هذا التصور ضرورة، نجسر به بين المحسوس والمعلوم والمتخيل و نتلمس به أسئلة لا أجوبة لها. وهو خصوصية بشرية عامة، مارسها البشر منذ تعلموا الوقوف، ومارسته الجماعات بخصوصية ثقافتها، أي بخصوصية تأقلمها وتطورها ضمن سياقها الخاص الطبيعي والتاريخي.

ولحصاد خريف ثقافي آخر في الأردن شجون نحمل جديدها ونتحمل قديمها جميعاً كمعنيين بالشأن الثقافي العام وعاملين بهدف إبداعي. فنجد ثقافتنا وقد دلفنا القرن الواحد والعشرين محصورة بمفهوم المعارف العامة وليس المعرفة الضرورية الفعالة حينما تبرز ضرورتها. ويجد المختصون منا في مجالات الإبداع المباشر كالفنون الجميلة والبصرية والسمعية مهننا بلا أهمية يومية، ومنتجنا منقطع الحيوية عن محيطه. فلا نستطيع إيجاد مبررات لضرورة عملنا الإبداعي. وهو محاصر ضمن إلحاقه كجزيء هامشي بالمفهوم المحدد والممارس للثقافة على أنها فائض زخرفي. فائض مكلف نزين به صورتنا في إستلابنا لمضاهاة أغنياء الأمم. شيء ننتجه لنثبت به للآخرين ومن خلالهم لأنفسنا أننا قادرون على مماثلة الشكل الذي يقدمونه. فهي ثقافة إتكالية على الآخرين، إن بمعنى الفرد أو الأمة، وإن بمعنى الإستنباط أو الدمج. ونجد معارفنا لا تخدمنا، لا في الواقع الآني ولا في وضع تصور واضح لنهوض مستقبلي. ونحن هنا خاسرون حتى بما نعرفه عن أنفسنا، فهو غير كاف لإصلاح أمرنا ثقافياً. وأنا أعني الأمر الثقافي الأردني، بمعنى الأمة أفراداً وأطرا وسواه. ولا أنسى حين أتكلم عن الثقافة هنا أن أتكلم عن بطوننا كما عقولنا، فموائدنا التي يزيد فيها المستورد اطراداً في كل عام خير مؤشر على فاعلية مخزوننا الثقافي، إذا فرغت الخوابي.

ولأن مهننا الإبداعية بالتعريف تابعة لمفهوم المعلومات العامة والفائضة، فهي تعاني بشكل أنيمي أولاً نتيجة احتكام واقعها لقلة التفرغ وملاحقة العيش في مهن مثل التعليم والدعاية والإعلان ووظائف الدولة، مما يؤثر على نوعية منتجنا الإبداعي. وثانياً، تعاني نتيجة احتكامها لمهن خارجة عنها مثل الكتابة والصحافة والعلوم الإنسانية والهندسة، وهي مهن لها الأسبقية في تطورنا المديني. فمن هذه المهن غالبية المسؤولين عن الثقافة والفنون في الدولة والقطاع الخاص، ومنهم لجان المقتنيات الفنية ولجان تمويل الأعمال الإبداعية والمشروعات في الدوائر والوزارات، ولجان التحكيم في المسابقات والفرز، وكذلك الصحافة الثقافية والفنية وما إلى ذلك، مما يؤثر على نوعية الأعمال التي تجد حيز التنفيذ وتسليط الضوء. ومن تزاوج سبَبَيْ المعاناة هذين إفراز يضاعف المعاناة في ساحة ثقافية صغيرة كساحتنا. فضمن النظام العرفي السائد أوجدنا إزدواجية في المصالح ينافي وجودها إمكانية التعامل بأخلاق أي من المهن المزدوجة. وتعاني ثالثاً من تعميم فكرة حاجتها لدعم الجميع، فكأن الجميع قد أنجز مهامه في مهنه المختلفة والأساسية ولم يتبق عليهم سوى دعمنا ودعمها. وكأننا قد لبّينا حاجاتنا، وجاء هذا الشيء المكلف الفائض لنبدد ما تبقى لدينا عليه. وكأنها في حاجتها المطردة للدعم لا تؤشر إلى قصور في القيام بمهام دعمها أصلاً. فأضحت مهننا رديفة للتسول المزمن. قد نكافؤها بما فاض من أواخر الموازنات في الدوائر والوزارات، وقد نعطيها مبالغ وخدمات ضمن مشروعات مؤقتة وآنية نمولها بنزر ما نصرفه بإسم تطويرها ودعمها. وتبقى هذه المهن الإبداعية بلا أهمية لذاتها ولما تؤهلنا لفعله ثقافياً. وفي ذات الحين الذي نطبق به أفكاراً ومشروعات ريادية كبيرة وجميلة فإن حصيلة منتجنا الإبداعي تبقى ضعيفةًً على مستوى الريادة الحقيقية في استنهاض الطاقات المحلية ثقافياً. ويبقى لنا إرث شحيح من الورق الرسمي الذي قد يحتذى به في تشكيل آليات عمل مستدامة، ونتناوله بالنقاش والتمحيص. وتبقى الفنون والإبداع والثقافة مجالاً للتجارب بلا تراكم في آليات الدعم ولا مخطط قصير أو طويل الأمد.

وحتى لا تكون الذاكرة أداة جلد لأنفسنا مرة أخرى على محصولنا الثقافي في بدايات ربيع آخر، سأقفز مجازياً فوق الآراء المتباينة في تحليل أسباب التردي الذي نتفق على معاناتنا جميعاً منه. سأستعين على القفز بمنطاد مملوء بأسئلة ساخنة. ولإطلاق المجاز شروط أهمها أن أعينكم على رؤية ما أراه تحت المنطاد. أرضية صغيرة خصبة ذات زرع غض وإن غارت جذوره وتشعبت، وثمر غير ذي جدوى بينة. فعلى الرغم من تطور الأدوات والشخوص والتمويل في شأننا الثقافي الإبداعي، لا يقود البحث إلى أرقام رسمية ولا غير رسمية، سواء بما صرفته الحكومات في الميزانيات العامة أو الجزئية أو أرقام استشرافية في الميزانيات لمصاريف على الإبداع والفنون.

وكذلك الوضع بالنسبة للقطاع الخاص، بما ينفقه في المجال الثقافي والفني وما يجنيه. ولا توجد أرقام واضحة ولا تقريبية تحدد قيمة أو تعدد ما تقتنيه الدولة من الفنون، ولا تراكم ما أنفقته عليها. فلا تحديد لأرقام رئيسية واضحة في الميزانيات العامة للدولة، ولا بنود ذات تسميات واضحة. ناهيك عن وجود نظام فهرسة بسيط قد يجمع كل المقتنيات الثقافية والفنية لدى الحكومة أو ما يختص بالبصري والتشكيلي مثلاً. ويبقى عرف التعامل السائد مع المبدع ضمن نوازع الدعم السريع الإنقاذي، ويبقى دور المبدع هو حل ألغاز المسابقات العامة والدوائر الثقافية ومشروعات التمويل والاقتناء المباغتة.

وحتى أزيل شبهة الشكوى الملاصقة للتسول عن طرحي الآنف، سآخذكم معي في تسلسل وهمي لعمل لجنة وهمية؛ إذ يُعلَن عن مشروع إبداعي جميل حيوي من حيث المفهوم، ويستلمه بشفافية الإعلان رجالات مشهود لهم بالإنجاز في مجالات مختلفة، يشكلون بحكم انتماءاتهم العملية في أطر متعددة لجنة كبرى تستلم حياة ومستقبل المشروع الجميل. ولأن لكل هؤلاء مهام أخرى تتغلب في أهميتها على عمل هذه اللجنة الكبرى، فإنهم يجزئون عمل اللجنة الكبرى وينيطونه بلجان فرعية. هو نظام عمل متبع في كل دول الدنيا ذات إرث العمل المنهجي المؤسسي.

وقد تنيط اللجان الفرعية بعض مهامها بلجان أخرى متفرعة عنها. ولأن اللجان الكبرى تتشكل من شخصيات يصعب الوصول إليها وليس من دورها الحقيقي أن تقابل كل ذي حاجة وسؤال، ينتهي الأمر بتسليمها العمل اعتيادياً لموظفين من درجة اقل من حيث التسلسل الوظيفي. وهؤلاء قد يصدف ان يكون لديهم اهتمام ما بالشأن الثقافي إلا أنهم غير معنيين به وظيفياً وعملياً. هو أمر معتاد في كل بقاع الأرض، حيث يحتاج المثقف للتعامل مع الدولة ضمن شروطها. وعلى كل، فما ابتدأ شفافاً بالإعلان الصحفي يصبح غائماً مع كل تشكيل للجنة فرعية جديدة. وشخوص اللجان الفرعية لا معرفة للمثقف العادي بها بحكم وظائفها العامة، وعملها في وزارات ودوائر ومؤسسات لا اطلاع له عليها، وهي غير معتادة عليه. والمشروع الذي ابتدأ فكرة جميلة يروج لها رجالات المسؤولية أضحى عهدة في يد لجان فرعية لتقرر فيما تقرره آليات العمل وشروطه وكيفية إنجازه، وهي تعمل عليه بشكل استثنائي يصعب تحديد مساره الورقي الرسمي ويصعب الحصول على المعلومة الواضحة حول المشروع برمته. كل هذا والمشروع قد تم الإعلان عنه منذ أمد، ويتداوله المعنيون بالتقديم له، وهم قد لا يجدون شروط التقديم ولا لوائح القوانين الناظمة، ولا كيفية حماية ملكيتهم الفكرية، ولا أسماء المحكمين إلى آخره مما يعهد به إلى اللجان الفرعية الأخيرة. إن ما يترتب عن أدائنا الحالي في هذه المشروعات من بلبلة في حياة المعنيين بها من العاملين في المجال الثقافي، يكاد يتحيز بشكل تام إلى جانب المثقف الضليع في الواسطة، وهي آفة تؤثر على ملكات وحرية المثقف الفكرية، إن لم نقل إنسانيته. وما ابتدأ بالواسطة ينتهي بالواسطة وليس بيننا سبب للخلاف، لولا أننا نريد منتجاً ثقافياً يبدد ظلام الواسطة.

لا ألوم الوزراء ولا الموظفين ولا شخوص ورجالات الشأن الثقافي بل أريد أن تشغلنا آليات واضحة في عملنا حتى يكتمل عملنا كفريق. وإن كنت أتحفظ على كم المياومات الممكنة على حساب الشأن الثقافي الخارجة عن دعم العاملين فيه مباشرة. فليت اللجان وما يتفرع عنها تجتمع وتقرر ضمن آليات عملها الوظيفي، اليومي الاعتيادي، الذي تحاسب عليه، الشروط وحيثيات العمل، فتطلع علينا بإعلان مشروع ثقافي ما، لجنة تحكيمه الكبرى وتقدم لنا بكل ثقلها دعوتها الجادة لنا للمشاركة الفعالة بشروط ناجزة وقوانين ناظمة واضحة ومحكمين معروفين مسؤولين. هنا تكون الفكرة والمعلومة والآلية في خدمة عمل المبدع ويكون المبدع مسؤولاً عما ينجزه بالدعم.

وكل موسم ثقافي جديد وأنتم بخير.

في الشأن الثقافي الأردني: كي لا تبقى الفنون الإبداعية والثقافة مجالاً للتجارب – مها أبو عياش
 
27-Dec-2007
 
العدد 7