العدد 7 - ثقافي
 

ماذا يقول الشاعر أدونيس عن التشكيلي فيه، وهل هي محاولة للخروج من مأزق الكتابة كما قلت غير مرة؟

قد يكون من المفيد أن أوضح المناخ الذي وصلت فيه للقيام بهذا العمل الفني. في عملي اليومي، أتنقل كثيرا، وقد أصل إلى حالات لا أستطيع فيها القراءة أو الكتابة، وهو ما أعده وقتاً ضائعاً، وأنا لا أستطيع أن أتحمل الوقت الضائع. وبداية جاء الأمر من باب الأصدقاء، والاهتمام، والرغبة في المغامرة التي تنطوي على إيمان بجدوى الفعل والاكتشاف، فقد كان لي صداقات كثيرة مع فنانين، عرفت أعمالهم، وكتبت عنهم، وفجأة تساءلت لماذا لا أحاول أن أفعل شيئاً في هذا الوقت الذي يضيع مني؟ ومن خلال تجربة “الرقائم”، اهتديت إلى المزاوجة بين الكتابة والتشكيلات التي تعتمد أحياناً على مادة مهملة، لا معنى لها، وأقصد: أن كل ما يحمل معنى من هذه الأشياء المتناثرة في الحياة اليومية: الورق، الخشب، التنك، الحديد، الحصى. وكل ما يحمل معنى لا يفيد في صناعة “الرقيم”، لأن كل ما يحمل معنى لا يفيد في صناعة ‘الكولاج’/ “الرقيمة”، لأنه يحمل معناه مسبقاً.

هل أنت مقتنع بتجربتك التشكيلية؟.

بداية أنا متشكك في كل شيء، ليس فيما أقدم تشكيليا وإنما في الشعر والنقد، وكما أقول دائماً، فإنني أمتلك الجرأة لتمزيق ثلثي ما كتبت، ولكن بين الشك والقناعة مسافة أيضا للعب. فأنا أميل للعب. أشاكس الطفل فيّ وأيضاً أحاول أن أقيم مسافة بيني وبين أعمالي الشعرية والنقدية والتشكيلية.

وفي منطقة اللعب هذه أردت أن أوجه تحية إلى الشعر العربي الذي أكن له إعجاباً كبيرا، وأظن انه عظيم جداً، وأحياناً، أتساءل إذا كان العرب الراهنون جديرين بان يرثوا هذا الشعر العظيم، هم أقل منه بكثير، وفي هذا الإطار وضعت خلفية للوحة من الشعر العربي القديم، وهذه الكتابة هي نوع من “القرار” أو الخلفية، وهي تحية للشعر، ومحاولة لخلق عمل فني تشكيلي بالمعنى الواسع للكلمة، لا بالمعنى المتعارف عليه في الفنون البصرية.

يلاحظ أن ثمة تراسلات بين النص الشعري والتشكيلي تقوم على القطيعة مع الماضي، وعشق لا يحد للشعر العربي ألا ينطوي ذلك على تناقض مربك للمبدع والمتلقي معاً؟.

أعتقد أن من المهم لفهم نتاجي بشكل عام، أن يتم النظر إليه بشكل متكامل، ورؤية الروح، أو الرؤية الكامنة وراءه. وما أريد أن أقوله، سواء على صعيد الكتابة أو الفن، إننا نحتاج إلى التجريب والمغامرة على مختلف المستويات، وبشجاعة كاملة. فالفن حركة إبداعية ويجب أن يقوم الفنان، كما يخيل لي، بتوسيع تجربته وتعميقها وإغنائها وتجديدها لا أن يقف عند شكل معين، لأن الوقوف يعني السكون. وبالنسبة لي فإنني أحب دائما أن أخرج على هذه القوالب، واعتقد أنني أمتلك قدرة الحركة، ليس لتعميق الدائرة فحسب، وإنما أحاول أيضا الخروج من الدوائر، ومن الحدود والحواجز التي صنعتها، لدرجة أنني أحياناً أتناقض مع نفسي. وأعترف أنني شخص متناقض، كما أبدو من الخارج، و كل إنسان خلاق ينطوي على نوع من التناقض.

قصيدتك تنتهك المعجم اللوني لصالح قاموس خاص بك يقوض الدلالة المعروفة للون، وهو أيضا ما ينسحب على اللغة.

أظن أن كل هذا جاء من رغبتي العميقة بالخروج من الحدود، والثورة الدائمة على ما يكاد أن يصبح ثابتا، وأظن أن هناك نقصاً كبيراً في كتاباتنا العربية يتجلى في أن كل نوع يقيم حدودا فاصلة بينه وبين النوع الآخر، ورؤيتي استنادا لتجربتي – بمعرفتي المتواضعة- هو أن على المبدع هدم جميع الحدود الفاصلة بين الأنواع، لأنه ليس هناك نوع واحد تتمازج فيه جميع الأشكال، وهذا أيضاً ينطبق على اللغة التي يجب أن تنفتح على سائر الجهات، وعلى جميع الإمكانيات بحيث أن القصيدة، مثلا، يمكن أن تكون فلسفة، وتاريخا، وعلم اجتماع، وفنونا تشكيلية، وموسيقى، لكن المهم أيضا أن على المبدع حينما يقرر ذلك أن يكون عارفا بكل هذه الأشياء معرفة عليا، وأن يعطي لعمله بعداً فنياً وجمالياً، وأن يوفر للمتلقي إحساساً بأن هذا العمل يقع في حقل الشعر، وليس في المقولات الفلسفية، أو السرد التاريخي، أو أي شيء آخر.

إنني ضد فصل المشاعر عن الأفكار، وفصل الانفعالات عن الراهن؛ مشاهد الموت والقتل، العلم والتكنولوجيا، الصعود إلى القمر. والسؤال الذي يلح، هل يعقل أن يكتب الشعر العربي في القرن الحادي والعشرين بالكيفية التي كتب بها الشاعر قبل ألف عام، بمعزل عن جميع الانقلابات المعرفية التي تمت وتتم اليوم. ومن الصعب أن يتحقق ذلك إلا إذا أعدنا النظر في التراث.

هل ينبغي قتل آبائنا لنحصل على حظوة الحداثة؟

أعتقد أن المشكلة تقع بين التاريخ والثقافة. ومن المستغرب أن الشعراء متدينون دون أن يشعروا، وفي عمق كل شخص عربي رجل عابد، ومعتقد لثقافة دينية بأثر بعيد. والثقافة الدينية هي التي قامت على فصل الشعر عن الحقيقة، والشعر عن الفكر. والشاعر قبل الإسلام كان يقول الحقيقة كما يراها، يقول كل شيء في القصيدة، وضعه الشخصي، أحلامه، محيطه الاجتماعي، ما وراء الطبيعة، وعندما جاء الإسلام، لم تعد الحقيقة ملك الشاعر، وإنما للوحي. والإسلام كرر موقف أفلاطون. ومن الواضح أن انقلاباً جرى في الثقافة أمسى معها الشعر العربي خلال الخمسين سنة الأولى للدولة الإسلامية محملاً بالأيديولوجيا، وانطفأ الشعر، وظل الأمر كذلك حتى الدولة الأموية، ومع قيام الدولة الحديثة على يد معاوية، بدأت العودة إلى ما قبل الإسلام. وبدأ الصراع بين قيم الحرية مقابل التمسك بالإرث الديني، مما بشر بالقول إن الهوية ليست إرثاً، ومرجعيتها ليست في الماضي، وإنما الهوية هي نوع من الابتكار الذي يتجلى في حياة الإنسان وأعماله وأفكاره وأقواله. ثم بعد ذلك عاد الشعر مع أبي نواس، الذي ربط بين الشعر والحقيقة والأفكار والحياة، وخلق قيم المدينة محل قيم البداوة، وأعاد للشعر مكانته، كما أعاد له معناه بوصفه أداة التعبير الأشمل والأعمق عن الإنسان.

كيف يمكن أن تفسر غياب الأنثى عن الثقافة العربية، وكيف يمكن أن تفسر أيضا تطور القصيدة وانعكاساتها على واقع المرأة؟

في “تاريخ يتمزق في جسد امرأة”، أردت أن تكون قصيدة ضمن سلسلة إعادة النظر في تاريخنا وثقافتنا القديمة، لاعتقادي أن كل شاعر عربي ينبغي أن يبتكر (ماضيه)، لكي يستطيع أن يبتكر (حاضره)، وأرى أننا نحن العرب مقصرون في هذا الموضوع، لأننا لا نعيد قراءة ماضينا. والنتيجة، إما أن الماضي يبتلعنا، وإما أن نضعه على الرف، وكلا الأمرين خطأ. وهذه القصيدة مبنية على حياة هاجر (أم العرب)، وهي أنموذج للمرأة، والإنسان الذي يضطهد، ويرفض، وتنفى إلى الصحراء مع ابنها الرضيع. وتترك هكذا. في تراثنا نحن نتبناها رمزيا، ودينيا، لكنها ليست حاضرة في حياتنا اليومية، ولا في ثقافتنا، كنموذج أول لعلاقة الطفل بأمه، ولعلاقة الذكورة بالأنوثة. وقد رأيت أن يعاد النظر ، لتكون هاجر في القصيدة نموذجاً مضاداً تماماً لما هو سائد، تتمرد فيه المرأة على أوضاعها وشروط حياتها، وتخرج من القولبة التقليدية التاريخية والدينية. إنها ثورة على كل شيء: التقاليد، العادات، الأعراف والغيبيات. وعملي هنا مستلهم من أشياء كثيرة قالها أسلافنا القدامى، وبشكل خاص، المتصوفون، ويحضرني هنا قول ابن عربي:”كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه”، فالمجتمع العربي والقصيدة التي لا تحضر فيها الأنوثة حضوراً كاملاً، لا من حيث الواجبات أو الحق أو الحرية، ولا السيطرة على مصيرها، هذا مجتمع ناقص.

هل أنت صوفي؟.

قبل ذلك أتساءل، ما هي الصوفية؟ إن لها عدة معان، أنا صوفي مادي، وإن لم أكن من المتدينين، وأرى أن العالم الحقيقي هو العالم الذي نعيشه، لكن الصوفية بالمعنى التقليدي الشائع، تعني العزلة عن العالم، وكأن الصوفي كائن مريض. إذا كان هناك ثورة فكرية عميقة وحقيقية في الفكر العربي، فهي في الشعر والصوفية، فالتصوف غَيّرَ التعبيرَ عن مفهوم اللغة. الصوفية جعلت (المطلق)! للقول بوحدة الوجود، فإذا كان هناك من تغير جذري، وتغير للعلاقة الشائعة بين الإنسان واللغة والشعر، فالتصوف قد أسهم فيها بمقدار كبير، وهو ثورة عظيمة، وبهذا المعنى، أنا صوفي.

أدونيس: امتلك الجرأة لتمزيق ثلثي ما كتبت! – أجرى اللقاء: حسين نشوان
 
27-Dec-2007
 
العدد 7