العدد 45 - بورتريه
 

محمود الريماوي

من يعرفون الوزير السابق، ورئيس الديوان الملكي السابق، مروان القاسم، يقولون إنه اختار منذ أكثر من عشر سنوات، الابتعاد شبه التام عن الأضواء، والامتناع حتى عن قراءة الصحف المحلية.وهو ما يفسر امتناعه عن إجراء مقابلات صحفية، وينسبون له "تعريفه" لنفسه ووضعه حالياً بأنه: مزارع، يمضي جل وقته مع النباتات والأشجار والمزارعين، وهو الذي خالط في حياته من قبل آلاف الأشخاص. في واقع الأمر تمتلك العائلة منذ عشرينيات القرن الماضي أراضي في الغور. وكملاك الأراضي الذين يمضون شطراً كبيراً من يومياتهم في الهواء الطلق، ويكتسبون نضارة جسدية، فإن مروان القاسم يحتفظ ببنية شابة رياضية، وبإقبال ملحوظ على الحياة. الرجل أمضى الشطر الأكبر من حياته المهنية دبلوماسياً ووزيراً للخارجية ورئيس الديوان الملكي، والزراعة هي هواية ومهنة السياسي المتقاعد، وملاذ المنسحب، إضافة لإقباله على قراءة المؤلفات السياسية والتاريخية.

في تقاعده فإن قلة من الأصدقاء ممن يخالطونه يلاحظون تمسكه بالولاء للدولة والنظام، كواحد من رجالات ورموز الدولة الأردنية. والده صدقي القاسم عمل محافظاً للعاصمة، وكان عضواً في مجلس الأعيان في خمسينيات القرن الماضي.

الأسرة التي تعود في جذورها الى طولكرم، انتقلت للحياة في الأردن في إمارة شرقي الأردن منذ الثلاثينيات. ذكريات مروان ونشأته ومسيرة حياته تتمحور في الأردن وحول الأردن.

مروان نشأ في عمان في كنف الأسرة، ولم ينخرط في حياة حزبية، لكنه واكب مرحلة الخمسينيات العاصفة، وكان هواه آنذاك وهو دون سن العشرين، عروبياً قومياً. بعدئذ تعرف على الحزب القومي السوري الاجتماعي، وشدته أفكار الحزب العلمانية والمناهضة للصهيونية (بمسحة شوفينية تتحدث عن اليهود الصهاينة ويهود الداخل). لم ينتسب مروان لذلك الحزب أو لغيره، بل انصرف للدراسة في الولايات المتحدة.قرب الوالد من الدولة ساهم في إبعاد الشاب مروان عن النشاط السياسي والحزبي خصوصاً.

تمتع مروان القاسم بثقة الراحل الحسين، ما أسهم ابتداء من العمل دبلوماسياً في بيروت والولايات المتحدة، ثم تقلده وزارة التموين كأول حقيبة وزارية يتقلدها في صعوده. في فترة التنافس بين الأردن ومنظمة التحرير على التمثيل، كان مروان القاسم في صف الدولة الأردنية، وينسب اليه الآن قوله إن منظمة التحرير أخطأت خطأ فادحاً، في عدم تمكين الأردن من استعادة الضفة الغربية المحتلة، رغم أن الطريق الى ذلك لم يكن سالكاً مئة بالمئة.أما الآن فإن الاحتلال الإسرائيلي، ليس مستعداً لإعادة الأرض المحتلة لا للسلطة الفلسطينية ولا لأي طرف آخر.

من يعرفونه ينسبون له القول، وهو صاحب الخبرة في شؤون السياسة والدبلوماسية، إن المعادلات الإقليمية تغيرت في منطقتنا، وإن ثمة صعوداً إيرانياً وتركياً الى جانب التفوق الإسرائيلي. تركيا تغيّرت وباتت تتمتع بهامش من الاستقلال عن الولايات المتحدة، وتغير وضعها الداخلي بعد تقهقر الأحزاب التاريخية وصعود حزب العدالة والتنمية وهو حزب عصري ذو جذور إسلامية وتطلعات أوروبية (الانضمام للمجموعة الأوروبية).

أما إيران، فتفوقها ملحوظ، في العراق، وفي تنامي قدراتها تجاه إسرائيل، علاوة على تمتعها بنموذج "ديمقراطي" خاص بها تسنده مؤسسات حيوية ومستقرة. أما حزب الله المدعوم ايرانياً وسورياً فقد غير المعادلات، حيث بات في إمكان قوة غير نظامية، الصمود في وجه إسرائيل وإيذائها وحملها على الانسحاب دون شروط ودون تفاوض (من جنوب لبنان العام 2000 ). غير أن مروان القاسم لم يغير قناعاته او ينقلب عليها، فهو يدعو لرؤية الأمور كما هي عليه وبناء سياسة تأخذ علماً بهذه التحولات.. ولا يكتم الرجل لمحدثيه إنه متفائل بالمرشح الديمقراطي أوباما، ويرى أن العالم سوف يصبح أكثر توازناً إذا ما وصل المرشح ذو الأصل الكيني الى البيت الأبيض.

أفكار غير مألوفة لرجل الدولة، لكنه بات مألوفاً في حياتنا العامة أن يتحدث رجال الدولة، بطريقة مختلفة في مرحلة تقاعدهم عما كانوا يتحدثون به من قبل.وفي رأيه أن النظر للأمور من هذه الزاوية، يتلاقى ولا يتباعد مع دوام الولاء للدولة والنظام. أشغل مروان القاسم منصب وزير الخارجية في أثناء أزمة احتلال الكويت. ينسب له انه بذل جهوداً خارقة من أجل انتزاع تعهد من وزير الخارجية العراقي آنذاك، طارق عزيز بالانسحاب من الكويت، لكنه لم يوفق في ذلك، وكما أخفق الوزير الأميركي، جيمس بيكر في لقاء شهير مع عزيز في جنيف. وغادر منصبه قبل وقوع الحرب بأيام (تولى وزارة الخارجية من بعده طاهر المصري).

لم يكتب مروان القاسم مذكراته لا عن تلك المرحلة ولا عن سواها، وكما هو دأب سياسيين أردنيين كثر، يخلون مواقعهم الهامة ويتركون معها وقائع التاريخ بما في ذلك أدوارهم الشخصية، مشاعاً ونهباً للرواة والمتحدثين من كل لون وصنف.

في رأي بعض عارفيه أن القاسم غادر العمل الحكومي وخلافاً للتوقعات في وقت مبكر وفي ذروة نضجه المهني (آخر موقع له كان عضواً في مجلس الأعيان العام 1995). بل إن البعض كان توقع له الوصول الى الدوار الرابع (ليس بعيداً عن دارته الكائنة في شارع محمود العابدي). لكن غوامض عالم السياسة وكواليسها، لا تجيب لكل سائل عن السبب وراء تقاعده المبكر، وقبل أن يتم الستين (يناهز الآن السبعين من شبابه).

يصفه عارفون له بأنه يتمتع بقدرات إدارية عالية، وقد نجح في المواقع التي تولاها، غير أنه في رأي فريق آخر كان شديد النخبوية منقطعاً عن "الشارع" وعن نبض حياة الناس "العاديين" ولا يثق بالتواصل مع الرأي العام عبر الصحافة. لكنه كان صاحب قرار بما في ذلك في أثناء رئاسته للديوان الملكي أواخر الثمانينيات، ويروى أنه قام في خطوة غير مسبوقة بتقليص حاد للمخصصات التي تدفع لزعامات قبلية،بعد موافقة الراحل الحسين على الإجراء، وذلك تعبيراً عن الحاجة لاستكمال بناء مرتكزات الدولة الأردنية الحديثة. وقد مر القرار بغير ضجيج واعتمدت مخصصات رمزية فقط لـ "قيادات اجتماعية".

مروان القاسم: تقاعد سياسي مبكر
 
25-Sep-2008
 
العدد 45