العدد 43 - حريات
 

دلال سلامة

كانت لينا البالغة أربعة أعوام تراقب والدتها وهي تغير لشقيقها الرضيع فوطته عندما أشارت إلى عضو الطفل وقالت: "ماما.. عضوه أصغر من عضو "سين"".

هلعت الأم، فسين هذا هو ابن الجيران الذي يبلغ الخامسة عشرة من العمر. كانت هذه هي الطريقة التي اكتشفت فيها أم لينا أن ابنتها تتعرض للإساءة الجنسية.

حملت هذه الحادثة إجابات على كثير من التساؤلات التي تراود أهل لينا حول التغيرات المفاجئة في سلوك ابنتهم، فقد تحولت من طفلة مرحة مقبلة على الحياة إلى طفلة مكتئبة منعزلة تصيبها نوبات غير مبررة من البكاء، كما أن الحادثة كانت بداية لرحلة علاج طويلة ومضنية خاضتها العائلة مع ابنتها بمساعدة مختصين، للخروج من حالة الكآبة التي لازمتها فترة من الوقت.

إيمان عقرباوي, الباحثة الاجتماعية في دار الأمان للأطفال، وهي دار رعاية اجتماعية تابعة لمؤسسة نهر الأردن، وتتولى العناية بالأطفال الذين يتعرضون للإساءة بمختلف مظاهرها، تشدد على أهمية العلاج النفسي في مثل هذه الحالات: "الآثار التي تخلفها الإساءة الجنسية على نفسية الطفل آثار مدمرة، ولا تستطيع العائلة وحدها التعامل معها، وهنا يأتي دور المختصين الذين ينظمون جلسات لإعادة تأهيل الأطفال، بالإضافة إلى جلسات للأهل يتعلمون فيها كيفية تقديم الدعم النفسي لأطفالهم.

أما كيف تعرف أن طفلك يتعرض للإساءة الجنسية. فتحدد الباحثة عقرباوي مجموعة إشارات يمكن أن تنبىء عن احتمالية وجود إساءة: "إضافة إلى الاكتئاب والميل إلى العزلة والعدوانية والتراجع الدراسي المفاجئ، قد نلاحظ أن الطفل يخوض في مواضيع جنسية لا تتناسب مع عمره، أو يحاول، هو نفسه، تقليد الممارسات التي يتعرض لها مع أطفال آخرين، أو تنتابه كوابيس ليلية تحمل إشارات جنسية، كما أن تغير مشية الطفل فجأة أوجود التهابات تناسلية غير مبررة يجب أن يثير اهتمام الأهل".

تشدد عقرباوي على أن حدة هذه الآثار ترتبط أساساً بالظروف التي تمت فيها الإساءة: "الآثار تصبح أكثر حدة إذا ترافقت الإساءة مع التهديد، وهذا ما يفعله المسيئون في العادة، فهم يهددون بإيذاء الطفل إذا وشى بهم. وهناك أسلوب آخر، هو إفهام الطفل بأنه كان شريكهم في الفعل، ويشعرونه بالتالي بأن الذنب سوف يقع عليه إذا ما أبلغ عائلته بما جرى".

من ناحية أخرى، فإن الأذى يكون أكبر، كلما كان المسيء أقرب إلى الطفل، "فالآثار الأكثر دماراً تخلفها إساءات يرتكبها الأقربون، الذين ينظر إليهم الطفل باعتبارهم مصادر أمنه وحمايته".

منى، حملها أهلها مسؤولية الإساءات التي تعرضت لها، فهي، قد طلقت والدتها عندما كانت في الثانية من عمرها، وأمضت الطفلة حياتها متنقلة بين منازل أبيها وجديها وعماتها، وفي كل هذه المنازل لم تحظ بأية رعاية، إذ كانت تمضي معظم وقتها في الشارع، وعندما اكتشف أهلها ما كانت تتعرض له حملوا عليها وتعاملوا معها باعتبارها شخصاً سيئاً. هي الآن في السادسة عشرة، مصابة بالاكتئاب وحاولت الانتحار أكثر من مرة. ورغم سنوات العلاج والتأهيل الطويلة فإنها لم تحرز تحسناً يذكر، وهي بالتالي مثال حيّ لأطفال يتعرضون للإساءة ولا يتلقون الدعم النفسي من أسرهم.

لا تكمن صعوبة الأمر بالنسبة للعائلة، التي يتعرض أحد أطفالها للإساءة الجنسية في اضطرارهم للتعامل مع الآثار التي تخلفها الإساءة، بل في كون أن العائلة تجد "نفسها" تخوض حرباً على جبهتين؛ فهي مطالبة بأن تتعامل مع هذه الآثار، ومن ناحية ثانية عليها أن تتعامل مع مجتمع لا ينظر إلى ضحايا الإساءات الجنسية كضحايا، بل إن المجتمع بطريقة ما يشركهم وعائلاتهم في الذنب.

هذا ما حدث مع مها، التي تعرضت للإساءة من قبل عمها، وعندما قرر أهلها الإبلاغ وقفت العائلة الكبيرة لهم بالمرصاد، "لأن ذلك سيتسبب في فضيحة كبيرة للعائلة".

أهل مها، الذين تعرضوا لضغوطات كبيرة ليتم التكتم على الموضوع، قرروا المضي في الأمر، وأبلغوا فعلا عن الإساءة، وتابعوا مع ابنتهم رحلة العلاج النفسي. يقول والدها: "ما زلت إلى هذه اللحظة أتعرض للوم والتقريع بسبب إبلاغي. وهم يقولون إنني تسببت بتشويه سمعة بنات العائلة كلها، والبعض من عائلتي قاطعني، لكن لم يكن أمامي خيار آخر. لقد وضعت موضع اختيار بين عائلتي الكبيرة وابنتي فاخترت ابنتي".

كثيرون دفعوا ثمناً فادحاً. حنان (21 سنة) تعرضت لمحاولة اغتصاب عندما كانت في الرابعة عشرة وقد أبلغ أهلها عن الواقعة في حينه، والذي حدث بعدئذ أنها بعد سنوات، وعندما وصلت سن الزواج، ظلت هذه الحادثة نقطة سوداء في صفحتها، ولاحظ أهلها أنه لم يكن يتقدم للزواج بها سوى المدمنين وأرباب السوابق.

الأمور قد تكون أكثر عنفا في بعض الأحيان. المحامي علي الحموري يقول إنه تحدث أحيانا حالات اغتصاب يتنازل فيها الأهل عن حقهم الشخصي، وعندما يخرج المغتصب بعد قضاء عقوبته المخففة، يتم تزويجه من الفتاة.

أما لماذا يفعل الأهل هذا، فالباحث الاجتماعي محمد باشا يقول: "كله متعلق بنظرة المجتمع إلى جسد المرأة، باعتباره عورة، وموضع الشرف الوحيد، وعليه فإن أي انتهاك لهذا الجسد هو مساس بالشرف، بغض النظر عن كونه انتهاكا تم برضاها أو رغما عنها.

وعن مسألة تزويج الفتاة التي تعرضت للاغتصاب بالمغتصب يقول باشا: "هناك مثل شعبي لدينا يقول: "غلب بستيرة ولا غلب بفضيحة". بمعنى أن الأهل يجدون أن زواج الفتاة حتى من مغتصبها، بما يوفره الزواج من ستر، وهو قيمة أساسية في ثقافتنا، أقل وطأة عليهم من بقائها دون زواج، وهذا يفسر لماذا يكون عدد القضايا المبلغ عنها أقل بكثير مما يجري على أرض الواقع".

الخوف من العار ليس السبب الوحيد الذي يجعل الأهل يتكتمون على قضايا الإساءات. هناك صعوبة إثبات قضية التحرش، فالقانون لا يعتمد شهادة الطفل وحدها. ومن دون دليل مادي ملموس، لا قضية أساسا. حالة حسان (7 سنوات) مثال على ذلك، فقد تعرض لتحرش من قبل جار له، أبلغ أهله السلطات، لكنهم لم يستطيعوا إثبات واقعة التحرش، لم يتوقف السوء عند هذا الحد، فبعد ذلك تعرض حسان إلى محاولات تحرش من آخرين، ما جعل أبو حسان يعبر عن ندمه لإبلاغه المسؤولين: "بعد هذه الحادثة صار الطفل يتعرض لمضايقات كثيرة، لدرجة أنني لم أعد آمن عليه أن يخرج إلى الشارع. لقد وجدت أن عديدين بدأوا يتعاملون معه بصفته هدفا سهلا".

لا تقف الأمور عند هذا الحد، فكثيرا ما يحجم الأهل عن توجيه شكوكهم إلى أشخاص بعينهم، بسبب صعوبة إثبات التهمة، واحتمال أن يقوم ذلك الشخص بعدها برفع قضية رد اعتبار.

مع ذلك، يحدث في حالات أن يكون الدليل المادي موجودا، ويتسبب الأهل بجهلهم في تدميره، مثل حالة نور 5 سنوات، التي اعتدى عليها والدها، فتوجهت الأم إلى الشرطة فعلا، لكن بعد أن جعلت الطفلة تستحم وألقت بملابسها التي تحمل آثار الاعتداء في القمامة.

تشدد الباحثة إيمان عقرباوي على ضرورة مراقبة الآباء لأبنائهم، إذا لم يعان الطفل من الكآبة أو العزلة أو الكوابيس أو غيره من الإشارات التي يمكن أن تدل على حدوث إساءة فهذا لا يعني أنه لا تحدث إساءة فعلا، أحيانا وفي البيئات التي يفتقد فيها الطفل الحب والحنان، يعتقد أن هذه طريقة للتعبير عن الحب، فيقبلها، وتكون بالنسبة إليه تعويضا عما ينقصه، والخطر هنا يكمن في أن الطفل قد لا يعاني من الآثار المدمرة للإساءة في حينه، لكنه سيعاني منها عندما يكبر، ويعي ما كان يحدث.

وتختتم عقرباوي حديثها محذرة من أن تقبل الطفل لهذه الممارسات باعتبارها طرقا طبيعية للتعبير عن الحب، قد يؤدي إلى خلل معرفي لديه، يؤدي بدوره إلى تشوه مفهوم حرمة الجسد لديه، وكذلك مفهوم الحب وطرق التعبير عنه، وقد يلجأ هو نفسه للتعبير عن حبه للآخرين بهذه الطريقة، فيصطدم بردة فعل المجتمع العنيفة.

التحرش بالأطفال ظاهرة مكتومة ومعلومة..
 
11-Sep-2008
 
العدد 43