العدد 43 - أردني
 

محمود الريماوي ونهاد الجريري

أصداء الثورة الرقمية لم تتأخر في الوصول إلى الأردن. قبل الإنترنت شق الستلايت طريقه إلى البلاد منذ أواسط الثمانينيات. مشاهدو التلفزيون الذين كان يبهجهم العثور على محطة تلفزيونية رابعة أو خامسة «على الأنتين» بدأوا يستقبلون في بيوتهم عشرات المحطات، ثم مئات فآلاف منها. الانخفاض المتتابع في الكلفة، مما يزيد على ألف دينار إلى مئة دينار فقط، أدى لشيوع الخدمة على أوسع نطاق، وفتح الأبواب واسعة أمام تعددية هائلة في مصادر المعلومات واختيار البرامج.

حدث ذلك بالتزامن تقريباً مع مخاض الانعطافة الديمقراطية، ومع بدء تحسن صورة الأردن في مجال الحريات. وتواقتَ بعدئذ مع الصعوبات الاقتصادية، نتيجة انكشاف المديونية وانخفاض قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية. بذلك وجد الناس في ثمرات الثورة الرقمية، ملاذاً ومتنفساً، في مرحلة اختلطت فيها الصعوبات الحياتية بآمال الانفراج السياسي.

بموازاة ذلك بدأت تقنية المعلومات التي برزت في تسعينيات القرن الماضي في الانتقال إلى المملكة مع العام 1995. وهناك من يضع تاريخاً أسبق ببضع سنوات مع استخدام دوائر حكومية لهذه التقنية، التي شهدت ارتفاعاً مطرداً في نسبة المستخدمين من عام إلى عام، كان أبرزها ارتفاع عدد المشتركين من 800 ألف مستخدم العام الماضي إلى 1.1 مليون في الربع الأول من العام الجاري بزيادة نسبتها 20 بالمئة تقريباً.

بلغ الأردن بذلك المرتبة السادسة في نسبة الانتشار تسبقه دول الخليج العربي. ارتفاع فاتورة المستخدم النهائي لخدمات الإنترنت، وإن ظلت أقل من مثيلاتها في بعض الدول العربية مثل السعودية، ساهم في عدم احتلال الأردن مراتب متقدمة. لكن قراراً أصدرته الحكومة في تموز/ يوليو الماضي بتخفيض ضريبة المبيعات على خدمة الإنترنت لفئة المنازل من 16 بالمئة إلى 8 بالمئة، يساعد على الانتشار السريع.

كانت الضريبة المفروضة على الخدمة في المملكة تعد من الأعلى مقارنة بمثيلاتها في22 دولة عربية، ولا تسبقها في ذلك إلا المغرب التي تفرض على خدمة لإنترنت 20 بالمئة كضريبة، فيما تنحدر نسبة الضريبة في عدد من الدول العربية إلى 5 بالمئة، في وقت لا تفرض فيه دول أخرى أي رسوم على الخدمة.

الموبايل، ومن أسمائه "الخلوي" و"النقال" و"المتحرك" و"الجوال"، بدأ بالشيوع في الفترة نفسها. وكان يوصف بأنه أداة في أيدي النخبة والميسورين لارتفاع تكلفته ولـ"عدم حاجة عامة الناس" له. مع مطلع الألفية الثالثة انتشرت هذه السلعة-الخدمة "انتشار النار في الهشيم". انخفضت أسعارها مع دخول شركة ثانية ثم ثالثة فرابعة لتزويد هذه الخدمة. اتسع نطاق اقتصاديات الموبايل بافتتاح آلاف المحلات في العاصمة والمدن والبلدات والمخيمات، ومع التحاق أعداد كبيرة من العاملين في شركات تزويد الخدمة، ونشطت حركة إعلانية وتسويقية مصاحبة لا سابق لها. بات الموبايل في أيدي الشطر الأكبر من الناس، ومن لا يحتاجه بالفعل في تسيير أمور حياته، لم يعدم طريقة لإقناع النفس بحاجة ما إليه أو رغبة فيه.

أدى ذلك إلى منافسة غير متوقعة مع "التلفون الثابت"، الذي بدأ يفقد سحره التاريخي ويترجل للمرة الأولى عن "عرشه". تحسنت خدمة إيصال الثابت إلى المنازل والمحال والشركات، وجرى تخفيض ملموس ومتتابع على أسعار المكالمات الدولية، وقد عملت الضرائب المضافة على امتصاص هذا التخفيض. في نهاية الأمر دخلت الخدمة الهاتفية بالمحمول والثابت أو كليهما، إلى بيوت وفي أيدي غالبية الأردنيين والمقيمين. وما زال التوسع في نطاق هذه الخدمة على أشده. وهو ما يثير تساؤلات حول انعكاس هذا التغيير على أنماط حياة الناس وسلوكهم وقيمهم .

يلاحظ البعض أن دولة مثل إسرائيل، تتمتع بصناعة منتجات الكترونية يتداولها غالبية الجمهور، قد انعطفت مع الثورة الرقمية إلى المزيد من الرجعية الفكرية والسياسية، وأن بلداً آخر مثل إيران تفعل فيه وسائل الاتصال الحديثة فعلها، في خلخلة الجمود الذي يعتري الحياة السياسية والاجتماعية. مغزى ذلك أنه لا يمكن التعويل على انتشار التقنيات الجديدة وحدها لتحقيق تغيير اجتماعي وثقافي، بخاصة أن هذه التقنيات كوسيط ناقل ومرآة عاكسة رغم الفرص التفاعلية فيها، تتصف بالحياد وتحمل ما يراد تحميله، من رسائل ومؤثرات من سائر الفاعلين والناشطين أفراداً وجماعات وهيئات ودول.

على أن الثورة الرقمية وفرت فرصة لتوسيع المدارك وفك العزلة وتأمين الاتصال مع العالم الخارجي وقبل ذلك مع أطراف الداخل المحلي. بذلك يزاحم التلفزيون والموبايل والإنترنت وسائل التنشئة والإعداد من البيت والمدرسة والجامعة وسواها.

في الجانب الاقتصادي وبالأرقام، فإن ولوج الأردن عصر الإنترنت، أصبح يمثل المصدر الأول لتوفير العاملين في قطاع تقنية المعلومات في دول الخليج، التي تحتل المراتب الأولى بين الدول العربية في هذا المجال. يخرّج الأردن سنويا نحو 5 آلاف طالب في قطاع تقنية المعلومات من الجامعات الحكومية والخاصة. المؤسسات المحلية توظف نحو ألف خريج، فيما يقصد آلاف منهم دول الخليج، بمجرد اكتسابهم الخبرة والتدريب اللازمين.

من مساهمات الشبان الأردنيين في الثورة المعلوماتية في الخليج، إطلاق شاب أردني هو سامي الطاهر، أول شركة إنترنت في السعودية. وعمل شبان آخرون مثل سميح طوقان على إطلاق أول بريد إلكتروني بالعربية؛ ما فتح الباب على مصراعيه لحركة تعريب الإنترنت، حتى لا تبقى الشبكة حكراً على من يتقن الإنجليزية.

في التطبيقات العملية لثورة المعلوماتية، دخلت هذه التقنية جوانب عدة من حياتنا في الأردن.. هناك مرونة وتوسع من جانب المستخدمين في تقبّل المعلوماتية كجزء من النشاط اليومي؛ في التواصل مع الغير، في مطالعة الصحيفة، في مشاهدة التلفزيون أو سماع الراديو؛ في بعض المعاملات الحكومية؛ وحتى في الزواج والتسوق.

وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات باسم الروسان، أكد في لقاء مع «بترا» أمس الأربعاء، أن الأردن سيصبح قريباً على خريطة الاتصالات العالمية بعد توقيعه اتفاقيات لتوفير بدائل جديدة لربط الأردن مع العالم بسعات كبيرة.

يعدّ قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من أهم روافد الخزينة، إذ بلغت إيرادات الحكومة منه في العام 2006 ما يعادل 368 مليون دينار، إلى جانب توفيره 18 ألف فرصة عمل مباشرة، و65 ألف فرصة غير مباشرة.

تعمل الخطة الإستراتيجة للقطاع، وفقاً للروسان، لتحقيق ثلاثة أهداف هي: زيادة انتشار مستخدمي الإترنت إلى 50 بالمئة، وزيادة دخل القطاع من 1,2 مليار دولار إلى 3 مليارات دولار، وزيادة العمالة المباشرة فيه من 17 ألف إلى 5 ألفاً، عبر أربعة محاور: الربط والبحث والتطوير، العمالة، والتعليم، والبيئة الاستثمارية والتنظيمية.

مع هذا التوسع تكشفت مثالب لا بد من التنبه لها «حتى يظل الركب سائراً». الحاجة ما زالت ملحّة لسن تشريعات وقوانين، تشجع على الاستثمار في هذا القطاع الذي يدر الملايين ويوفر آلاف فرص العمل. ربما كان هذا سبباً في تشاؤم البعض، تجاه أن ينشأ في الأردن «سيليكون فالي» قائم على صناعات عالية التقنية، فرغم وفرة الطاقات الأردنية التي تثبت كفاءتها كل يوم في دول الخليج، إلا أن هوة عدم الثقة ما زالت قائمة بين المسؤولين ومشاريع ناشئة يقوم عليها شبان مبدعون، فبينما يبدأ الإبداع في الأردن بجهود فردية وموارد محدودة، ينتهي في الخليج بملايين الدنانير.

بتفحص الوضع القائم يتبين أن نوعية التعليم المقدمة في مساقات تقنية المعلومات، ما زالت عاجزة عن تلبية حاجة السوق؛ ما يملي على الشركات المستخدمة تقديم تدريب تقني متين للخريجين الجدد تستثمر فيه الوقت والجهد. فما إن يصبح الخريج قادراً على الإنتاج، حتى تستقطبه عواصم الخليج لتبدأ دورة أخرى من الحياة. الحاجة إلى تحسين نوعية التعليم تبدأ بإعادة نظر في المساقات المطروحة في الجامعات المعنية، حيث يتعلم الطلبة مهارات لا يحتاجونها.

على أن التحدي الأكبر يكمن في المضي بالتنمية الشاملة الى الأمام، وتعميم ثمراتها على سائر الشرائح والمناطق، وتحفيز المبادرات الاجتماعية والفردية في سائر حقول الإنتاج المادي والذهني، وإرساء بيئة ترى في احترام الحوار والقانون والتعدد فضيلة كبرى، وتنشط الفضول المعرفي وتدفع نحو الإفادة من نجاحات الآخرين كما برعت في ذلك دول آسيوية، ومنها الهند وباكستان، لا سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ فحسب، والتوقف عن إثارة الحساسيات أمام استحقاقات التقدم الواجب الوفاء بها.

بذلك يمكن استثمار الثورة الرقمية بصورة ناجعة، تواكب إرادة ومسيرة النهوض وترفدها بالتقنيات المتاحة والممكنة، وهو ما يفسر أن الدول والمجتمعات المتقدمة، زادت من وتيرة تقدمها بإنتاج واستخدام هذه التقنيات، بينما لم تفلح دول أومجتمعات أخرى حتى تاريخه، سوى بـ»تنمية التخلف» وإضفاء ثوب قشيب عليه..

الثورة الرقمية: آفاق مفتوحة: الأردنيون يواكبون تقنية الاتصالات باستهلاك منتجاتها
 
11-Sep-2008
 
العدد 43