العدد 42 - كتاب
 

ينسب للمبدعين على الدوام انهم أنجزوا القليل مما يتوقون لإنجازه. هناك عبارة شهيرة لناظم حكمت الشاعر التركي يقول فيها: «إن أجمل الكلمات هي التي لم تكتب بعد». والعبارة غنية عن الشرح.

كان كاتب هذه السطور قد سمع غير مرة من الشاعر محمود درويش تطلعه لكتابة لا المزيد من الشعر فقط بل من النثر أيضاً، وأنه كان ينشد كتابة رواية ذات يوم. لكن الموت القاتل عاجله.

قياساً على المبدعين، فإن حياة البشر هي أقل وأضيق مما يرومون إنجازه. مع ذلك يتفنن كثير منهم في تبديد الوقت والجهد، في نشاطات محمومة أو في مشاحنات مجانية ومسمومة مع الآخرين. والنتيجة أنهم في انغماسهم هذا يغتربون عن أنفسهم: عن ينابيع ذواتهم، وعما يتطلعون لتحقيقه،كي يكون لحياة كل منهم معنى في نهاية المطاف، وكي يتركوا في من حولهم أثراً لحياتهم.

في كتابات عديدة للإيطالي باولو أوكيلو صاحب «الكيميائي»، وبعض هذه الحكايات صيغ على شكل حكايات.. دعوات دائمة للقراء كي يكتشف كل منهم الكنز المخبوء في دخيلته. واقع الأمر أنه تتم التضحية بمثل هذا الكنز من أجل «أمجاد» عرضية حتى وصاحبها يعلم علم اليقين أنها مكاسب آنية زائلة.

لا يود المرء أن يتخذ سمت الداعية او المبشر والطوباوي، غير أن الحياة لا تستقيم حين يعتصم الكاتب بالصمت والسلبية، وهو يرى من حوله التدافع الغريزي والسيولة العمياء لحراك البشر، وتربصهم ببعضهم بعضاً واتخاذهم من بعضهم بعضا مشاريع خصوم دونما سبب فعلي، وحتى دون فائدة ترتجى لصاحبها المقدام.

يسوق المرء هذه الانطباعات بين يدي شهر الصيام، الذي يشهد في أيامه الثلاثين ما يشهده من تزاحم وتدافع، ومن يقظة الشهوات بما فيها شهوة الأنانية والإيذاء، ومن ارتفاع وتيرة الغرائز الأولى، بدل أن يبرهن الراشدون والراشدات في هذه المناسبة على الأقل على التهذيب الذاتي، احتراماً لأنفسهم وسواهم ولمعاني الشهر النبيلة. أنظر كيف يقود السائقون سياراتهم وجلهم صائمون في أيام رمضان، وكيف يضيق الواحد منهم بكل سائق آخر في شوارع عمان، في ظاهرة سلوكية لا مثيل لها في دول قريبة أو بعيدة. لينظر بالمناسبة كل منا الى ذات نفسه ويتفحص سلوكه بأمانة وإنصاف.

نعيش ونعمل في مدن، بأقل قدر من التمدن، ورائدنا مثل سائر من نوع «إذا لم تك ذئباً أكلتك الذئاب». مثل يتعلق بغابة لا بمجتمع بشري، مع ذلك نعتنقه في المدن ونرى فيه برهاناً على الحنكة،وتسويغاً لإطلاق ذئبية مكتومة. لا نستقي عبرة ممن عاشوا سواد حياتهم بأنانية مطلقة واستعداد دائم للإيذاء.. كذئاب، وكيف انتهوا الى التوحد: يهذرون مع أنفسهم.

يعرف المرء أن لا فائدة من الوعظ، وأن تغيير أنظمة وقوانين الحياة السارية هي المدخل للتمدن، مع ذلك لا يملك الكاتب أن يكتم ما يجيش في ضميره، انتظاراً لتغير قد يكون بعيد المنال.

محمود الريماوي: أقل قدر من التمدّن
 
04-Sep-2008
 
العدد 42