العدد 42 - أردني
 

حسين أبو رمّان

مواقف غير موزونة، تعليقات غاضبة، وتصفية حسابات. هذا بعض ما استثارته في الوسط الصحفي شبهة الفساد في قضية مفوضية العقبة، فيما حاولت مواقف قليلة أخرى إجراء مناقشة موضوعية أو هادئة للأمر. غير أن الجوهري في كل هذا هو: ما النتيجة التي سنحصدها بعد أن تهدأ غبار هذه "المعركة"؟.

النتيجة بائسة : انشطار الرأي العام بموجب الهويات الأولى والفرعية، واندفاع أطراف يفترض بها قيادة الرأي العام نحو التخندق الغرائزي، بما يؤدي حكماً الى تفتيت النسيج الاجتماعي، وافتقاد لغة مشتركة، واضطراب الأولويات وتداخلها.وهو من أسوأ ما يمكن أن يصيب المجتمعات النامية في سعيها نحو تحقيق أهدافها في التنمية والديمقراطية والسلام الاجتماعي وتعبئة قواها لبلوغ هذه الأهداف.

في قضية كتلك التي تتعلق بشبهة مخالفة أو فساد في منطقة العقبة الخاصة، فقد كان المنطق يقضي، منذ البداية، بإفساح المجال أمام القضاء لكي يجري تحقيقاته وينطق بكلمته. الشخصنة في هذا المجال تثير جواً مسموماً لا ينسحب سلباً فقط على مجريات التحقيق، بل ينعكس بالسلب أيضاً على مستوى ووجهة الحوار والحراك العام. في مجتمعات وفي صحافات أخرى، يتركز الاهتمام على القضايا المثارة بصرف النظر عن الأشخاص. رئيس الوزراء الياباني، ياسوو فوكودا،استقال قبل أيام بسبب انخفاض شعبية حزبه الحاكم (الحزب الديمقراطي الليبرالي). ليس هناك من اعتبارات شخصية أو فئوية في مثل هذا الموقف. بل على العكس هناك تضحيات ذاتية وسمو عن الشخصنة.

كان وما زال يفترض أن يتركز الاهتمام على القضية في جانبها القانوني بعيداً عن اغتيال الشخصية أو الدفاع عن أشخاص. على صعوبة ذلك في أجواء مشحونة.مكافحة الفساد مطلوبة وحاسمة كركن من أركان الإصلاح الشامل.. غير أن الترفع عن العصبيات مطلوب بالمقدار ذاته، من أجل إرساء بيئة سياسية وقانونية سليمة.هذا وجه بارز من وجوه القضية المثارة.ومن جوانبها أيضاً ما أثارته الزميلة رنا الصباغ، في مقالها المعنون "شعرة معاوية تفصل بين "البزنس" والمنصب" (العرب اليوم، 31/8)، قالت فيه "تناسل شبهات الفساد بسبب التداخل "المؤذي" بين عالم البزنس مع شخصيات في الحكم بات منظاراً لحالة التوتر الداخلي. وصار لا بد من وضع النقاط على الحروف والتوصل إلى توافق مجتمعي حول المسموح والممنوع في أردن القرن الواحد والعشرين".

الصباغ اختتمت مقالها بتأكيد أن "الإثراء الناتج عن تولي موقع عام يجب أن يكون خطاً أحمر. كذلك ينبغي أن تكون تجليات تسمين الثروة المرتبطة بالعمل العام من المحرمات. وعلى كل من يبحث عن الثروة المالية وتنميتها أن يوجه سعيه هذا بعيداً عن كل تشبيك مع العمل العام وتضارب المصلحة الذي ينشأ بحكم الأمر الواقع ما بين المسؤولية العامة وممارسة البزنس بكل مظاهرها المستترة، الظاهرة، والقانونية، ولكن غير الأدبية معاً، والتي تستوي تبعاً لذلك، في وعي الناس، مع تضارب المصالح غير القانوني".

صحيفة العرب اليوم، كانت نشرت يوم 26/8 تحقيقاً أوضحت فيه أن الوكالة الأميركية للإنماء الدولي، أحالت "عطاء تصميم وإشراف تطوير المرحلة الثانية لمنطقة العقبة الصناعية الدولية على أحد المكاتب للاستشارات الهندسية العائد ملكيته لزوجة مسؤول كبير في مفوضية سلطة العقبة الاقتصادية الخاصة".

الزميل سلامة الدرعاوي، اعتبر في التحقيق المشار إليه هذه الحالة مخالفة صريحة لقانون سلطة مفوضية العقبة الاقتصادية الخاصة التي حظرت على كافة أعضاء المفوضية وزوجاتهم وأقاربهم من الدرجة الأولى أن يكون لهم منفعة في مشاريع داخل العقبة أو علاقة تجارية مع أي مؤسسة مسجلة في المنطقة أثناء مدة عضويتهم.

تحقيق "العرب اليوم" يقع ضمن مسؤوليتها كصحيفة،، وهذا لا ينفي حقيقة أن رئيس مفوضية العقبة يبقى بريئاً حتى يثبت العكس.

وبسبب وجود شبهة فساد قوية باستغلال الوظيفة العامة، كانت استجابة رئيس الوزراء، نادر الذهبي سريعة بوقف إحالة العطاء على المكتب الاستشاري، للتحقق من الأمر. ثم أن صحيفة «العرب اليوم» نشرت يوم 27/8 وجهة نظر مدير مديرية الشؤون القانونية في مفوضية العقبة، يوسف الزعبي والتي نفى فيها وجود مخالفة قانونية، شارحاً أن "الأمور المحظورة على الرئيس وأعضاء المجلس وأزواجهم وفروعهم من الدرجة الأولى تنحصر بوجود علاقة منفعة مع السلطة بأي صورة كانت"، موضحاً أن التعامل مع المكتب الاستشاري تم من خلال المطوّر الأجنبي وليس من خلال المفوضية نفسها.

عند هذا الحد، كانت القضية تتطور بشكل اعتيادي. لكن بعض التعليقات الصحفية على هذه الحادثة حرّك مياهاً راكدة، وكان الزميل حلمي الأسمر في طليعة هؤلاء بمقاله (الدستور 28/8) الذي حمل عنوان "أسئلة قد لا تكون مشروعة"، حاول فيه أن يجد تفسيراً "إقليمياً" لما حصل مع أبو غيدا، بربطه مع استهدافات سابقة طالت رئيس الديوان الملكي باسم عوض الله، ومدير عام مؤسسة الإذاعة والتلفزيون قبل تثبيته رسمياً في منصبه أمس الأول الثلاثاء.

الأسمر،، مهّد لموضوعه بالتساؤل "لمَ يُستهدف باسم عوض الله على هذا النحو السافر، ولمَ الاجتراء على منصب رئيس ديوان الملك بشكل لم يسبق له مثيل؟!".

نعم كثيرون استهدفوا عوض الله على خلفية إقليمية، وهو ما جهرنا به في "ے"، لكن عوض الله شخصية عامة وتحمّل مسؤوليات تنفيذية في فترات مختلفة، وبالتالي لا يمكن اعتبار أن كل نقد موجه إليه مسكون بدافع إقليمي.

موضوع مرقة من جهته، أقحم على المشهد، ليس لعدم وجود خصوم لمرقة من موقع إقليمي، بل لأن مدراء التلفزيون على اختلاف منابتهم وأصولهم كانوا دائماً عرضة للنقد، بل والتجريح أحياناً، سواء لاختلاف في الرؤى والاجتهادات، أو لوجود تضارب في المصالح.

في موضوع عطاء العقبة، لم يأت الأسمر بشيء يبرر وجهة نظره "بعد باسم عوض الله، جاء دور حسني أبو غيدا، وفي الصحف اليوم وأمس ملف كامل عما قيل إنه مخالفة لقانون المفوضية". ويضيف "وثمة أيضاً مطالبة باستقالة الرجل من منصبه فوراً، الأمر الذي لم يجرؤ أحد على فعله مع آخرين ممن تسلموا سدة المسؤولية...".

إذا كان الزميل الكاتب يريد الدفاع عن رئيس مفوضية العقبة لأي سبب من الأسباب، فهذا حقه، لكنه لم يقدم ما يشير إلى أن التهمة المثارة دافعها إقليمي، إلا إذا كان يقصد سلامة الدرعاوي أو العرب اليوم، وفي هذه الحالة يسقط مبرر استحضار عوض الله أو غيره. أما وجود "مطالبة باستقالة الرجل من منصبه فوراً"، فالمطالبة ليست غريبة أن تصدر عن مدير تحرير الصحيفة التي وجّهت الاتهام في ملف عطاء العقبة، بغض النظر إن كانت المطالبة موضوعية أم لا فهي هنا تدخل في باب حرية التعبير.

مقال الزميل الأسمر استثار على صعيد آخر تعليقات بعضها صاخب، مثل ما جاء في مقال رئيس تحرير الدستور محمد حسن التل (30/8)، والمعنون "في الأردن لا يستهدف أحد"، مع إضافة جملة للعنوان "مهداة إلى روح والدي"، رداً على ما جاء في مقدمة مقال حلمي الأسمر والتي قال فيها "أسئلتي اليوم التي أهديها لروح أبي الروحي حسن التل...". مع ملاحظة أن قيام رئيس تحرير صحيفة بالرد على مقالة لزميل في الصحيفة نفسها، هو أمر غريب على التقاليد الصحفية.فالأصل أن يعبر كل منهما عن نفسه دون ردود متبادلة ومباشرة. ولنلاحظ هنا كيف ان الاخطاء تتكاثر وتأخذ بتلابيب بعضها البعض.

التل الابن، استخدم في مقاله لغة اتهامية جارحة، ولو كان المقال مقدماً لصحيفة اللواء الأسبوعية التي كان المرحوم حسن التل يرئس تحريرها لربما أعاد تحريرها إن لم يكن أوقف نشرها. التل الابن، صوّر الأردن كذلك كما لو أنه "المدينة الفاضلة". وليس هناك من جوانب تقصير تستحق المعالجة.

في موقع عمون كتب بلال التل (2/9) مقالة أخرى في الوجهة نفسها إنما بنبرة هادئة" ترمي للإصلاح وتهدئة الخواطر". فيما كتب الزميل باسل العكور يوم 28/8 في موقع عمون الإلكتروني مقالاً بعنوان "أسئلة حلمي..."، انتقد فيه الأسمر، مرجحاً أنه يريد "أن يعطي بعض المسؤولين حصانة أمام أي انتقاد"، وذهب في مقاله محاججاً الأسمر بعدم وجود أساس إقليمي لقضية أبو غيدا. وذهب المذهب نفسه الكاتب حسن البراري.

من ذيول القضية أيضاً ما كتبه الزميل سامي الزبيدي في "الرأي، انطلق فيه من كون إيقاف عطاء العقبة جدير بالإبراز والمتابعة الصحفية، إن لم يكن لدواع وطنية فلدواع مهنية، لافتاً إلى أن "صحيفة زميلة غابت عن المشهد، ربما لنقص في أحد الاعتبارين"، ومضيفاً "ومهما كان الاعتبار، فإن المحصلة كانت غياب الزميلة عن تغطية جهد حكومة جدير بالإبراز".

الزبيدي قصد صحيفة "الدستور". لكنه يقفز عن حقيقة أن المسألة ليست مجرد تغطية لجهد حكومي، فقبل الجهد الحكومي، هناك صحيفة منافسة هي التي أثارت قضية عطاء العقبة، وهي الصحيفة نفسها التي قصدها الشريف الشهر قبل الماضي في مقال له متسائلاً "أي إعلام هذا الذي يجيز النشر والتداول دونما تمحيص في الحقائق والمعلومات؟" (الدستور، 3/7). الشريف من جهته رد ضمنياً على الزبيدي في مقال بعنوان "غاب الحوار.. وحل الضجيج" (الدستور 31/8)، قال فيه "ليس من الحوار أن نخلط بين الشخص والقضية، وليس من العدل أن يحاكم الناس وينفذ فيهم الحكم قبل صدور قرار الإدانة، وليس من المروءة تلطيخ سمعة المواطنين وكرامتهم ثم التأكد ما إذا كانت المعلومات التي سيقت صحيحة أم لا".

في الدستور أيضاً، كتب الزميل عمر كلاّب مقالاً بعنوان "الفساد ليس له جنسية أو مسقط رأس" يوم31/8، ركز فيه على موقف مبدئي مفاده " أنه لا يجوز أن يخضع الفساد إلى مفاهيم تضليلية. فهذه الآفة ليست حكراً على طيف سكاني دون غيره، وكذلك إدانتها فهي مرفوضة ومدانة ويستحق من يقترفها العقاب والحساب سواء كان من هذا الطيف أو من غيره".

بهذا ازدادت المناسبات التي راح صحفيون يقامرون فيها بمكانة الصحافة، حينما يضحون بالموضوعية، وينشغلون في التشيع لهذا المسؤول أو ذاك، ما يضعف الصحافة كسلطة رقابية، ويعرض الحرية الصحفية إلى التآكل. مع بروز أصوات متعقلة هنا وهناك تسعى لوقف قطار الشحن!.

أما الخوض من منطلق إقليمي في قضايا عامة، فمن شأنه إدامة مرض ينخر في نسيجنا الوطني. فيما تغذية الهويات الفرعية تعكس موقفاً شديد المحافظة، يُموّه على القضايا الأساسية في حياة الناس السياسية والاجتماعية، ويعكس نمطاً أيديولوجياً سمته الرئيسية تزييف الوعي. ومن غرائب الأمور أن بعض هؤلاء الذي يلعبون على وتر الإقليمية والهويات الفرعية، يدّعون الديمقراطية ويتظاهرون بأنهم من أنصار قانون انتخاب عصري ينهي الاختلالات في الحياة السياسية ويقوي النسيج الاجتماعي..

أبو غيدا يبقى بريئاً ما لم تثبت إدانته: التخندق يسمم النسيج الاجتماعي
 
04-Sep-2008
 
العدد 42