العدد 42 - أردني
 

نهاد الجريري

"طفى ضو، ولّع ضو، قال المدفع بو": كانت هذه ترنيمة الأطفال المنتظرين بصبر فارغ إطلاق مدفع رمضان معلنا انتهاء مدة الصيام.

من النادر أن تجد أحدا ينتمي إلى جيل الثلاثينيات وحتى السبعينيات، ولا يتذكر هذه الترنيمة الطفولية، التي ارتبطت بمدفع رمضان بوصفه "رمزا أسطوريا" يؤشر لحالة من الفرح ارتبطت بطقوس رمضانية هي أقرب إلى الوجدان من أي شيء آخر.

المدفع بطلقاته المتتالية هو الذي ينبئ ببدء الشهر وانتهائه، وهو الذي ينبئنا في كل يوم بين بداية الشهر وانتهائه، بمواعيد الإفطار والإمساك وحلول العيد. مواعيد لم يكن بالإمكان التهاون في تحديدها وإشهارها مع ترامي مساحات المدن في العالم الإسلامي، إذ لم يعد صوت المؤذن كافيا لإبلاغ أهل الأحياء الجديدة الممتدة.

بالرغم من اختلاف الروايات حول أصله وبداياته فإن من المفارق أن تحول المدفع من أداة حرب إلى أداة سلم جاء بمحض الصدفة،. ثمة مصادر تاريخية تشير إلى أن السلطان المملوكي خوش قدم أراد في أول يوم من رمضان عام 1454م أن يجرب مدفعا جديدا أُهدي إليه. فأطلق القذيفة في وقت الإفطار بالضبط، فظن الناس أن السلطان تعمد ذلك لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان؛ فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة؛ وقرر السلطان المضي فيها إطلاق قذيفة مدفع كل يوم في الموعد نفسه إيذانا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك.

رواية ثانية تقول إن ذلك حدث في عهد الخديوي إسماعيل، الذي حكم ما بين 1863 و1869 حيث كان جنود يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة في وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان. فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدا جديدا للإعلان عن موعد الإفطار. الحاجة فاطمة ابنة الخديوي سمعت بما حدث فأعجبتها الفكرة وأصدرت فرمانا بإطلاق المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية. ومنذ ذلك الوقت والمصريون يعرفون مدفع الإفطار باسم مدفع فاطمة.

لكن الرواية الأكثر تداولا هي تلك التي تعزو الأمر إلى عهد محمد علي باشا الكبير الذي حكم مصر ما بين 1805 و 1848؛ فقد حدث أن أحد قادة الجيش كان يختبر مدفعا فوق قلعة القاهرة، وحين أطلق المدفع كان ذلك بالتزامن مع أذان المغرب في شهر رمضان.

هنا في عمّان، ظل المدفع جزءا من التقليد العثماني رابضا على جبل القلعة من 1903 حتى عام 1916، عندما تعطل العمل به. في الثلاثينيات، أعاد الملك عبد الله الأول المدفع إلى جبل القلعة؛ ويرجح مؤرخون أن ذلك كان نابعا من تأثره بهذا التقليد العثماني الذي اعتاد عليه في الحجاز؛ مكة والمدينة. المدفع القديم، الذي كان ينقل على عجلات خشبية، نقل إلى المتحف العسكري في صرح الشهيد قرب دوار المدينة الرياضية.

يذكر أبو حسن الذي يسكن جبل الجوفة المقابل لجبل القلعة كيف أنه وأولاد الحارة والحارات المجاورة كانوا يعتلون أسطح المنازل والأماكن العالية حتى يشاهدوا مئذنة الجامع الحسيني التي كانت تضاء تزامنا مع أذان المغرب وانطلاق مدفع الإفطار من فوق جبل القلعة. وهو ما زال يذكر كيف كان يرى الجنود يتراكضون قبيل الإفطار تحضيرا لإطلاق المدفع؛ فقد كان الجيش وما يزال مسؤولا عن المدفع بالتنسيق مع الجهات المشرفة على مدينة عمان. لكن هذا لم يمنع أن قام مدنيون أحيانا بإطلاق المدفع لا سيما أنه لا يشكل خطرا. فقد توقف استخدام الذخيرة الحية في الإطلاق منذ العام 1859؛ واستعيض عنها بذخيرة صوت. يروي أبو قصي الذي كان يسكن جبل الأشرفية في طفولته، كيف أنه زار موقع إطلاق المدفع في أحد أيام رمضان في الخمسينيات؛ ورأى المدفعجي؛ وكان مدنيا؛ يحشو فوهة المدفع بقطع من القماش البالي والمنسوجات وبعض البارود قبل أن "يضرب" المدفع.

واليوم يقوم جنديان من الجيش العربي يلبسان الزي العسكري الأخضر "الفوتيك"، بتحضير المدفع وإطلاقه عند أذان المغرب في رمضان.

في إربد يتربع مدفع رمضان على قمة "التل" وسط المدينة الذي يمثل تاريخيا السراي الحكومي. الروائي هاشم غرايبة يستذكر مدفع رمضان بكثير من المحبة. في نهاية الخمسينيات، عندما كان طفلا، كان وأترابه يعتلون أسطح المنازل ويتوجهون بأنظارهم إلى التل. "كل يوم من أيام رمضان كان المشهد نفسه يتكرر: الشيخ سليمان إمام مسجد إربد الكبير، رحمه الله، يعتلي المئذنة، وما أن يفعل ذلك حتى نصرخ ‘هيّو طلّ هيّو طلّ‘ ثم يدور الشيخ في شرفة المئذنة دورة كاملة ويمد يده إلى جيبه ليخرج ساعة؛ ينظر فيها؛ ثم يضع يده على أذنه استعدادا للأذان؛ فتكون تلك إشارة للمدفعجي كي يضرب المدفع". ويضيف غرايبة أن أولاد الحارة اعتادوا أن يحملوا معهم الحجارة الصغيرة أو حبات القضامة حتى يلقوها على الأرض من على أسطح المنازل مقلدين مدفع الإفطار وكأنهم "جهاز لتضخيم الصوت". مدفع إربد توقف عن العمل في عام 1982. يضيف غرايبة أنه حاول مع آخرين أن يعيدوا له حضوره في عام 2006 عندما كان وليد المصري رئيسا لبلدية إربد؛ إلا أن مساعيهم لم تنجح في ذلك.

في الكرك، ما يزال مدفع رمضان يربض بجوار قلعة المدينة التاريخية، ولكن كمادة تراثية وهو مدفع عثماني. نايف النوايسة، الباحث في التراث الأردني، يذكر أن فوهة المدفع كانت توجه غربا نحو الوادي كي يحدث إطلاقه صدى عاليا. يقول: "كنا نسكن شرقي الكرك، في المزار، وكنا نتنقل مع الحلال؛ في رمضان كنا ننتظر المغيب ونعتلي أقرب تلة أو جبل؛ ونرى الشعلة أولا ثم نسمع الصوت؛ فننزل للأهل ونصرخ ‘إيجا الإفطار‘". ويعتبر النوايسة أن مدفع رمضان على ذلك النحو كان يشكل لجيله "حالة أسطورية غيبية"؛ "فهذا المدفع المركون جانبا سرعان ما يتحول إلى جهاز لا غنى عنه للإعلان عن مواعيد الإفطار والإمساك، وكائنا تربطني به علاقة جذب عاطفية وأقيم معه حوارا صامتا."

بالحميمية نفسها يتحدث سلطان المعاني، الأستاذ المتخصص في حضارات الشرق القديم وعضو مجلس أمناء جامعة فيلادلفيا، عن مدفع رمضان في العقبة أواسط الستينيات؛ وهو المدفع الموجود بالقرب من المسجد الرئيسي في السوق، والذي كانت تشرف عليه كل من بلدية العقبة والمسجد. ويتذكر كيف أن شارة البدء بالإفطار كانت دائما تأتي من صوت المدفع ومن أنوار مئذنة المسجد وقت الغروب. وفي محاولة لتفسير الرابط الوجداني بين الصائم ومدفع رمضان، يشير المعاني إلى مفارقة لطيفة وهي أن صوت المدفع الذي يعتبر تاريخيا مرادفا للخوف والحرب يتحول في رمضان مرادفا للفرح، مع إعلان انتهاء حالة الجوع والعطش.

**

القدس/ماحص، نابلس/ السلط

اعتادت بعض المدن في الضفة الشرقية أن تنتظر أصوات مدافع رمضان لتبدأ إفطارها. يروي عدنان البخيت، أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية، أنه عندما كان طفــلا في بلـــدة ماحـــص، أواخر الأربعينيات، كان يذهب مع بقية الأولاد من جيله، وبإيعاز من الأهل، ويعتلون هضبة عالية ليراقبوا مدفع القدس؛ وما أن يضرب المدفع البعيد ويسمع الأطفال الصوت حتى يركضوا عائدين وهم يصرخون "إفطروا، إفطروا". أما أهل السلط فظلوا حتى عام 1967 يعتمدون على مدفع نابلس وهو مدفع عثماني قديم يقوم خلف مسجد الحاج نمر النابلسي في سفح جبل عيبال. وهو موقع استراتيجي كانت انطلاقته توصل صوته المرتفع إلى معظم قرى نابلس. ويروي إبراهيم خريسات، رئيس بلدية السلط السابق، ويؤيده في ذلك هاشم القضاة، أن أهل السلط كانوا يفطرون اعتمادا على انطلاقة مدفع نابلس.

**

"المدفع" في مكة والمدينة

ثمة قصة طريفة لمدفع رمضان على قمة جبل سلع غربي المسجد النبوي في مكة؛ إحدى القمم التي يطلق من عليها المدفع، بالإضافة إلى قمم هندي والقشلة والمسفلة والفلق. في عهد الملك فيصل الثاني، أراد بعض سكان المدينة الالتفاف على الجبل لنزع حماية الدولة عنه ثم الاستيلاء على أجزاء منه. واتفقوا على أن تكون أول خطوة هي إزالة مدفع رمضان من على قمته؛ فشكلوا وفدا من أهل المنازل الواقعة في سفحه وقابلوا الملك فيصل طالبين منه نقل المدفع بحجة أنه يزعجهم لدى إطلاقه، ويثير الخوف في نفوس أطفالهم. فأمرهم الملك بكتابة طلب بذلك. وعندما عرض عليه الطلب، شرح عليه بعبارة "ينـــظر أيهما أقدم فيزال الحديـــث ويثبت القديم"، وهو يعلم أن المــــدفع قديم منذ العهد العثماني وأن العمران لم يكن قــــد امتد إلى جبل ســـلع إلا قبل سنـــوات قليلة. فأصيب الأهالي بالهلع مخافة أن تزال بيوتهم وتراجعوا عن مطالبهم. وفي كل عام وقبل بداية شهر رمضان، تقوم السلطات السعودية بإعداد 29 فردا من وحدة المناسبات للقيام بإطلاق مدفع رمضان في مكة والمدنية. ويختلف عدد الطلقات وفقا للمراحل الزمنية في الشهر: فعند ثبوت رؤية هلال شهر رمضان تضرب المدافع 21 طلقة؛ و7 طلقات إشعارا بموعد الإفطار؛ وعند السحور تسمع طلقة واحدة. كما أن للعيد 7 طلقات. وتطلق المدافع هناك من أعالي جبل سلع.

في رمضان فقط.. يتحول المدفع من سلاح قتال إلى بشير بالفرج
 
04-Sep-2008
 
العدد 42