العدد 42 - أردني
 

محمد عدي الريماوي

تتوقف سيارات لا يبدو على أصحابها الحاجة، إلى جانب العشرات من سيارات الأجرة الصفراء أمام موائد للطعام امتدت بجانب بعضها، وقد وضعت عليها أصناف عدة من المأكولات، في حين تقبل عائلات فقيرة بكامل أفرادها الذين تبدو عليهم سيماء التعب والإنهاك من طول المسافات التي قطعوها في الطريق إلى هذه الموائد الممتدة. ومن جاء منهم مع انطلاقة الآذان فإنه لا يتردد في الركض مع آخرين والاصطفاف في طابور طويل، يشبه ذلك الذي نراه أمام المخابز والمحلات التجارية لتكتمل صورة موائد الرحمن.

في الداخل يفترش كثيرون الأرض لتناول الطعام، في حين خصص جزء من الخيمة للعائلات، حيث تجاهد الأمهات لإطعام أبنائهن الكثر الذين يصرخون طلبا للطعام، في حين يتناول البعض طعامه واقفا. وينتظر العاملون وساكبو الطعام انتهاء هذا الطابور حتى يتمكنوا من تناول فطورهم، تتكرر الوجوه التي تطلب المزيد، ومع انتهاء اللحم والأرز تننهي معاناة يوم صيام لفقراء عمان والمدن الأخرى.

تنتشر الخيام التي تمتد فيها موائد الرحمن في كثير من شوارع عمان؛ في مناطقها الراقية ومناطقها الفقيرة، وتقبل عليها عائلات متوسطة الحال، أو تبدو كذلك على الأقل، والعائلات المستورة، فتمتليء موائد الرحمن بالمئات من الفقراء والمعوزين وبعض فئات المجتمع الأخرى، في حين ينتشر في الداخل، عدد كبير من المتطوعين الذين يساعدون من دفعته المشقة إلى أن يتناول إفطاره في مكان كهذا.

تعلن عن وجود موائد الرحمن يافطات علقت في أماكن بارزة معلنة عن منظم هذه الموائد، مشفوعة بآيات أو أحاديث تطلب التقبل من الله لهذه الصدقة العظيمة.

بدأت هذه الظاهرة منذ نحو سبع سنوات، ففي العام 2001، أقامت شركة فاست لينك (زين حالياً)، أول مجموعة من موائد الرحمن في الأردن، وذلك على غرار ما كان معروفا في مصر منذ سنين، حيث يقال إن مالك هذه الشركة كان مقيماً في وقت سابق فنقل فكرة موائد الرحمن من هناك إلى الأردن، ومع مرور السنوات، ازدادت الشركات والمؤسسات التي تقيم هذه الموائد الخيرية وتبالغ في الإعلان عنها، ما جعل بعض علامات الاستفهام تثار حول ما إذا كان بعض هذه الشركات والمؤسسات تقيم موائد الرحمن بوصفها نوعا من الدعاية والترويج، ناقلة الأمر من كونه عملا خيريا إلى عمل تجاري، زاد من ذلك أنه في السنوات الأخيرة، بدأ بعض الشخصيات وأصحاب الأموال في إقامة مثل هذه الموائد، وخصوصاً في مناطق عمان الشرقية أو خارج العاصمة. ثم تطور الأمر فاستقبلت عمان خيمة أقامها أحد أمراء دولة الإمارات العربية المتحدة قبل نحو خمسة أعوام، وهي مازالت تقام كلما حل الشهر، وهي اليوم من أشهر الخيام الخيرية في الأردن.

"صرلنا ثلاث سنوات بنفطر هون، بنيجي مرتين أو ثلاث في الأسبوع، ومرات بنروح على خيم في أماكن تانية"، يتحدث أبو محمد بحرقة عن زياراته المتكررة لهذه الموائد، فهو يزور الخيمة التي يقيمها الشيخ الإماراتي، ويقول إن الازدحام شديد، وأن هناك كثيرين ممن لا تبدو عليهم الحاجة يأتون لهذه الأماكن، "ما بعرف ليش بفطروا معنا هون، كثير من اللي بيجوا بقدروا يفطروا بدارهم، بس الناس عينها فارغة". يتمنى أبو محمد أن تكون هذه هي السنة الأخيرة التي يزور فيها هذا المكان، فهو يأمل أن يجد عملاً جديداً، يمكنه من أن يطعم نفسه وعائلته بكرامة.

وقد لاحظت «ے» أن أغلب مرتادي هذه الموائد هم من الوافدين والعاملين، الذي يتواجدون بكثرة في المنطقة التي تقام فيها الموائد، وأن بعض أصحاب المحلات التجارية القريبة يعمدون إلى تناول إفطارهم هناك، حتى لا يتكلفوا بالعودة إلى منازلهم. "عندهم رزق وما شاء الله، بيجوا يزاحمونا على هالرزقة، مش حرام؟" يقول أبو محمد الذي يستغرب مجيء هؤلاء لهذه الموائد، في حين يُعتبر سائقو سيارات الأجرة والحافلات، من الضيوف الثابتين لكثير من هذه الموائد.

ولا تعدم أن ترى في بعض الخيم التي تضم الموائد، كاميرات التلفزيون تدور لتصور ما يجري؛ وما يجري هو أن بعض كبار السن والمعدمين يتحدثون للكاميرا داعين بطول العمر لمن ينفق على هذه الموائد، معبرين عن أملهم بزيادة الخير له. ولكن كثيرا من الحاضرين يرفضون الحديث. "والله خايفة انفضح، نفسي أروح واحكي لهم إني بعاني، والله بنام في الجامع، ومعي الكلى .. بس بخاف انفضح"، قالت امرأة متقدمة في السن بعد أن رفضت في البداية الحديث للتلفاز أو الحديث لنا، مشيرة إلى أنها تأمل أن تنهي آخر سني حياتها وهي "مستورة".

بعد الانتهاء من تناول الطعام وانصراف الناس، يبدأ البعض يجمع أرغفة الخبز، في حين يجمع آخرون حبات التمر المتناثرة، ويجهز طعام سحوره بقيامه بجولة أخيرة عند شباك الطعام. يجلس كثيرون مقابل هذه الخيمة، ينفثون دخان سجائرهم؛ ولعلهم يتمنون أن تكون هذه هي زيارتهم الأخيرة لهذا المكان، في حين يتدافع الرجال عند ساقي شراب السوس، الذي يوزع شرابه المميز على من أنهى فطوره. وتخرج النسوة من المكان، وهن يبحثن عن وسيلة نقل تعيدهن إلى بيوتهن البعيدة.

عادة ما تقام هذه الموائد في شوارع حيوية في المدينة، مثل شارع جبل الحسين، وبالقرب من الدوار الثامن، وفي أماكن مختلفة من عمان الشرقية، مثل ضاحية الأمير حسن وجبل الهاشمي، إضافة إلى مناطق مثل حي نزال وطبربور. وتمتلئ أغلب هذه الموائد عن آخرها، فكثير من مرتاديها يعتبرون الأمر أقرب إلى نزهة، فالطعام هناك مقدم من أشهر مطاعم عمان، وتكلف الوجبة نحو أربعة دنانير، يعتبر مرتادو الموائد أنهم يوفرونها إذا ما زاروا الموائد الرحمانية.

ومع وازدياد انتشار هذه الظاهرة بشكل كبير، ولكونها تساعد في تقوية الأواصر بين أفراد المجتمع وطبقاته، كما يقول بعض منظمي هذه الأنشطة الخيرية، فإن الأموال الطائلة التي تنفق على هذه الخيم، والجو الدعائي والترويجي الذي يرافقها، قد يجردها من بعض معانيها النبيلة.

أحد الاقتصاديين سبق أن طالب أصحاب رؤوس الأموال الذين يقيمون هذه الموائد بأن يستغلوا الأموال التي ينفقونها على موائد الرحمن في إقامة مشاريع تنموية تسهم في تشغيل الفقراء من مرتادي هذه الموائد، "فالأصل في هذه الفكرة"، كما يقول هو ألا تكون موائد الرحمن ظاهرة تتكرر مع حلول رمضان، بل أن تكون هذه ظاهرة مؤقتة تنتظر إصلاحا اجتماعيا واقتصاديا يوقف مثل هذه الظاهرة، عملا بالمثل الصيني المعروف الذي يقول إن "تعليم الفقير الصيد خير من أن إعطائه سمكة."

موائد الرحمن .. صدقة جارية للمحتاجين.. وغيرهم
 
04-Sep-2008
 
العدد 42