العدد 42 - كتاب
 

حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، كانت الجرار هي الوسيلة الوحيدة لنقل الماء الذي لا غنى عنه في رمضان لقرية مثل غريسا، الواقعة بين الزرقاء والمفرق، لكنني، أنا ابن القرية الطفل آنذاك، أذكر أن رمضان في إحدى سنوات ذلك العقد، حمل إلينا صناديق المشروبات الغازية ومكعبات الثلج الكبيرة التي كانت غالبا ما تذوب مع غياب شمس ذاك النهار.

لم يكن الفصل صيفا، لكنني أذكر أن الجو كان "صيفيا" تسطع خلاله شمس حامية. وعلى الرغم من أنني لم أكن أصوم، لصغر سني، فإن إفطار الرجال والنساء، كل على حدة، كان أبرز ما يميز تلك الأمسيات في قريتي، حيث تحول نزاع على السيطرة على مجلس قروي القرية، إلى النزاع حول الصلاة في المسجد، ليصار في النهاية، إلى بناء مسجد آخر لتصبح القرية التي لا يقطنها أكثر من 150 نسمة، بمسجدين.

بحسب ما تعي ذاكرتي، لم تكن تنحصر مهام نساء القرية في الغالب في إعداد وجبة الإفطار، وإنما تتعداها إلى حلب الماشية وعلف الدواجن. ولم تكن تتعدى الاستعدادات لرمضان في تلك الأيام، سوى ذبح شاة في غرة رمضان وجلب مربعات قمر الدين المثنية بعناية داخل أغلفتها، والتي غالبا ما كانت تقوم جدتي، خلفة، بهرسها وتحويلها إلى عصائر شهية.

بعد الإفطار، كان الرجال ينتقلون من منزل إلى آخر لقضاء أماسي الشهر الثلاثين، ضمن ما يسمى "تعليلة القهوة"، حيث يقوم عدد من بيوت القرية بإعداد القهوة للرجال في المساء، والذين كانوا يمضون ليلهم في الحديث عن المواشي والزراعة، فلم تكن هنالك في ذاك الزمن أي وسائل للترفيه عن أبناء القرية، حيث كانوا، وكنت أنا من بينهم، يمضون سحابة نهارهم في التجوال في المزارع القريبة، وفي الليل يكون المسلسل الذي كان يبثه التلفزيون بعد نشرة أخبار الساعة الثامنة هو آخر ما نشاهده قبل أن نخلد إلى النوم.

لا تعبأ القرى كثيرا بالحلويات؛ القطايف والكنافة والوربات والبقلاوة والحلويات المشكّلة لم تكن موجودة، فيما عدا تلك المصنعة منها محليا، وإن كان هناك من حلويات في رمضان فهو اللزيقيات، والذي نادرا ما كان يتم إعداده. و"اللزيقيات" عبارة عن دقيق يتم عجنه وخبزه، ومن ثم تقطيعه قطعا صغيرة، ثم يغمس بالزبدة ويرش علية قليل من السكر.

هذه الحلويات، على بساطتها، كانت تشكل أساسا لأي احتفال عائلي، حيث كان يتم إبلاغ العديد من الأقارب بأن القهوة واللزيقيات لهذا اليوم، مثلا، سيكون في منزل فلان، فلا يتغيب أحد عن وليمة الحلويات النادرة تلك.

وتعد الوجبات المحلية: الرشوف، المجدرة، والبن والخضار، أبرز الوجبات، إلا أن المنسف كان على الدوام يعتبر الطبق الرئيس الذي به يفتتح الشهر وبه يختتم.

صلاة التراويح، كانت تشكل في ذاك الوقت فرصة للعبث والهروب من المنزل بالنسبة للأطفال، حيث كان يتم اللحاق بالمصلين المتجهين في طريقهم إلى المسجد، في الطرقات المعتمة ليتحول الصف الثاني في المسجد، والذي كان يقف فيه الأطفال إلى مصدر للهرج والمرج، الذي كثيرا ما كان يتحول إلى مصدر إزعاج للمصلين الخاشعين من الرجال، فيقوم أحدهم المصلين بطردنا خارج المسجد.

في المسجد أيضا، كان يتم في الغالب حض الآباء على تأديب أبنائهم وإلزامهم بالصلاة، غير أن الضوضاء والفوضى التي كنا نسببها، نحن الأطفال، كانت السبب في نجاتنا من "الصلاة الإلزامية" ومن ثم، في إطلاق سراحنا.

وكثيرا ما كان رمضان، في ذاك الوقت، يتحول فرصة لإحلال الصلح بين العديد من المتخاصمين، وخصوصا إذا ما كانت تلك الخصومات داخل حدود القرية، حيث يجبر كبار القرية الطرفين على التصالح ونبذ الخصومات.

عند مراجعة تلك الصور في الذاكرة عن رمضان في قرية نائية، ومقارنتها مع رمضان اليوم، فإنني أجد أنني انتقلت من زمن إلى زمن آخر؛ اليوم لا أمسيات ولا تعاليل القهوة، بل خصومات تتكاثر وتتنوع، وخيارات تتسع لمشاهدة القنوات الفضائية التي ملأت أوقات الفراغ ووسعت الهوة ما بين أبناء القرية الواحدة، والثقافة والتقاليد الواحدة.

اليوم تنشغل النساء في تحضير وجبات وحلويات مختلفة عبر برامج تبثها الفضائيات فيبقى في الذهن طعم آخر مختلف لطعام مجبول بالعرق لنساء عملن بجد وكد في تحضير حلويات ووجبات على مواقد النار والحطب.

منصور المعلا: رمضان في غريسا: مسجدان لـ150 نسمة
 
04-Sep-2008
 
العدد 42