العدد 42 - اقليمي
 

معن البياري

لعل من أهم ما أنجزه النشطاء الأجانب قبل أيام في رحلتهم، التي كسرت في زورقي صيد الحصار القائم على الفلسطينيين في قطاع غزة، أنهم أيقظوا في مدارك واسعة أن ثمّة في غير بلد في العالم مساحة من التضامن الأخلاقي والإنساني والحقوقي والسياسي مع الحالة الفلسطينية تحت الاحتلال والحصار الإسرائيليين، وأن جهداً فلسطينياً وعربياً مدنياً ينبغي أن ينشط في حماية هذا التضامن وتثميره والإفادة منه على غير صعيد، وخصوصا لإبقاء مأساة الشعب الذي يرزح تحت آخر احتلال عنصري واستيطاني في العالم غير منسيّة، إبقائها في ذاكرات شعوب الأرض، وذلك بالتواصل مع فاعليات ثقافية وأهلية وسياسية ناشطة من هذه الشعوب والمجتمعات، خصوصا وأن وقائع الاعتداءات الإسرائيلية على مدنيين قدموا إلى فلسطين للتعبير عن تضامنهم الأخلاقي والرمزي مع أهلها ليست قليلة.

تستحق الاحتفاء والكثير من التنويه مبادرة الحركة العالمية «الحرية لغزة» في تسيير سفينتين صغيرتين من قبرص إلى مرفأ صغير لصيادي السمك في قطاع غزة آب الماضي، وعلى متنهما 44 ناشطاً من أوروبا واليونان والولايات المتحدة، ومن إسرائيل أيضا، ومعهم مساعدات للفلسطينيين من أهالي القطاع، منها 200 قطعة من الأطراف الاصطناعية وسماعات الأذن وخمسة آلاف بالون للأطفال. ويستحق هؤلاء الكثير من التقدير، وقد تكتلوا في تجمع إنساني يعلن مقته للممارسات الإسرائيلية العنصرية، ويتبنى مناصرة شعب فلسطين من دون أي حسابات أو اصطفافات سياسية. وأشاع كثيرون منهم أنهم سيعيدون المبادرة، وقرر تسعة منهم البقاء وقتا أطول بعد قضائهم نحو أسبوع مع زملائهم في جولات في غزة.

من الحيوي أن يتم التذكير هنا بأن النشاط المدني الأجنبي في التضامن مع فلسطين وقضايا العرب أصابه، في العامين الماضيين خصوصا، فتور ملحوظ في الحماس وشيء من الضعف، ولا يحتاج المرء إلى كثير من إعمال الذهن ليقع على أسباب ذلك، فمنها بؤس الحال الفلسطيني نفسه، حيث الانقسام والاقتتال المخزي، وحيث ضعف التواصل مع التشكيلات المدنية والسلمية والحقوقية الأجنبية، فضلا عن تشوش الخطاب السياسي.

أما تقصير الصحافة والفضائيات العربية في تسليط الأضواء على التجمعات الأوروبية والأميركية التي تنشط في إعلان تضامنها عملياً ورمزياً فهو كثير وكبير. والبادي أن جهدا ينبغي أن تتم المبادرة إليه لحماية عدد ليس قليلا من الأجانب ،الذين سقطوا قتلى وجرحى برصاص جيش الاحتلال في فلسطين من النسيان، وقد قدموا للتضامن مع أهلها أو للتعريف بمحنة الاحتلال أو للاحتجاج السلمي على ممارسات إسرائيل العنصرية. كما أن ثمّة من لم يبخلوا على الفلسطينيين بتضحيات ليست هيّنة، وتطوعوا طويلا من أجل حماية الشعب تحت الاحتلال. والدعوة في هذه السطور إلى أن تكون مبادرة زورقي كسر الحصار عن غزة مناسبة للمبادرة إلى توثيق جميع المبادرات الأجنبية الإنسانية التي قامت من أجل الفلسطينيين والعرب، وإبقاء أسماء من نشطوا في هذه المبادرات غير مجهولة. ومنهم البريطانية آنا ويكس ( 35 عاما ) التي تنشط في منظمة نسوية عالمية للدفاع عن الشعب الفلسطيني، زارت الأراضي المحتلة مرات للتظاهر ضد جدار الضم العنصري الذي تبنيه إسرائيل. وتعرفت في الأثناء إلى أسرة فلسطيني تشكو ابنته ذات الثلاث سنوات من الفشل الكلوي، وأصرت على التبرع بكليتها لهذه الطفلة التي تسبب حصار الاحتلال بمرضها ، إلا أن السلطات الإسرائيلية اعتقلت ويكس ورحّلتها، غير أنها عادت بعد صعوبات، وتمكنت من الحضور إلى المستشفى والتبرع بكليتها للطفلة، وكان برفقتها خطيبها الذي تزوجت منه بعد نجاح العملية في حفلة فلسطينية بهيجة.

توجب تضحية البريطانية ويكس عدم نسيانها، وتوجب معرفتهم الدائمة بما يبادر إليه زملاء لها في تشكيلات وهيئات مدنية في غير مطرح في العالم، منهم من يقومون بمسيرات في بلدانهم ضد العنصرية الإسرائيلية. ولنتذكر دائما الأميركية ريتشيل كوري ( 23 عاما ) التي قتلها عمدا مجند في جرافة إسرائيلية، بتحطيم جمجمتها وأطرافها، في أثناء محاولتها في مارس آذار 2003 منع هدم أسرة فلسطينية في مخيم رفح، أقامت فيه مع أصحابه نحو شهرين. وكانت هذه الشابة التي امتنعت حكومة بلادها عن إدانة قتلها قد انتسبت إلى حركة معنية بالعدالة والسلام بعد أحداث «11 سبتمبر» لمناهضة طرق أميركا في محاربة الإرهاب، ونقل عنها خطيبها السويدي أنها كانت تشعر بعقدة ذنب، لأن بلادها تدعم دولة إرهابية تقتل المدنيين وترهب شعبا أعزل.

ومن البارز في وقائع حارّة في حركات التضامن العالمي أن حالات تعاطف شديدة الإنسانية عبر عنها كثيرون من الفاعلين في هذه الحركة، ومن ذلك أن الأميركية إيميلي واشمان (25عاماً) أحبها أهالي بلدة دير الغصون وأحبتهم، عندما كانت بينهم تتضامن معهم بالتظاهرات، وتتعرف إلى ما يغالبونه بسبب جدار الضم والتوسع الذي نهب مساحات من أراضيهم. وبعد أن غادرت إلى بلادها، ظلّوا في وجدانها، ثم عادت إليهم وتزوجت من أحد شبانهم. وثمة الارتباط العاطفي الخاص الذي كان عليه الطبيب الألماني هارولد فيشر (65 عاماً) حين اختار الاستقرار في فلسطين لما قدم إليها في 1981، وتزوج من فلسطينية. وفي بيت جالا حيث كان يسكن، خرج من منزله في أحد أيام نوفمبر تشرين الثاني 2000، لإسعاف فلسطينيين أصيبوا في قصف إسرائيلي، فأودت بحياته قذيفة، وجمعت أشلاؤه بصعوبة. وفي قائمة من قتلهم الاحتلال من المتضامنين البريطاني إيان هوك الذي كان يعمل مع الأمم المتحدة مشرفا على مشروع وكالة غوث اللاجئين «أونروا» لإعادة إعمار مخيم جنين، وقد قضى في نوفمبر تشرين الثاني 2000 برصاص إسرائيلي بينما كان يرفع علم المنظمة الدولية. وتحدث عنه الفلسطينيون في المخيم، وقد مكث بينهم شهراً ونصف الشهر، أنه كان يتصف بإنسانية مرهفة، واستطاع أن يصل إلى قلوب الجميع.

أما مواطنه ناشط السلام توم هورندال (22 عاما ) فنالته رصاصة إسرائيلية عندما كان في أحد أيام إبريل نيسان 2003 يساعد أطفالا فلسطينيين على عبور شارع في رفح، وكان يرتدي سترة برتقالية اللون لامعة للدليل على نشاطه الإنساني. وقالت شقيقته بعد أن مات بعد شهور من الغيبوبة أنها فخورة به، لأنه وضع نفسه درعا بشريا في مناسبات كثيرة في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية. ومن ضحايا جرائم القتل الإسرائيلية من الأجانب ، المصوران، الإيطالي رفائيل تشيريللو ( 42 عاما ) الذي قتله جندي إسرائيلي في جريمة اغتيال مكشوفة، وهو يلتقط صور فوتوغرافية لعدوان في رام الله في أثناء حملة «السور الواقي». والبريطاني جيمس ميللر (35 عاماً) في مايو أيار 2003 الذي صوّب إليه جندي إسرائيلي رصاصة قاتلة في عنقه، بينما كان يصور سينمائياً تدمير منزل في مخيم رفح.

كان طبيباً من المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة قد أصدر ترجمة جيدة عن الفرنسية لكتاب «العودة من فلسطين»، والذي ضم مشاهدات 21 ناشطا سويسريا و52 فرنسيا زاروا فلسطين في مارس آذار 2002 في واحدة من بعثات «الحملة الدولية لحماية الشعب الفلسطيني»، ووصفوا الممارسات الإسرائيلية بالعنصرية، بل إن أحدهم وهو اليهودي الفرنسي روني برومان، كتب أن التذرع بمحارق النازية لتبرير سياسة إجرامية هو إهانة لضحايا النازية، وشدّد على أن المقاومة حق أساسي للشعوب. يؤتى على هذا الكتاب البالغ الأهمية، في معرض التأشير هنا إلى غياب فادح لخطاب فلسطيني وعربي، يؤلف بين الوظيفة الإعلامية والمهمة الحقوقية والجهد التواصلي مع العالم، بلغة إنسانية تستطيع حشد مواقف المؤازرة والمناصرة وتلتقط وقائع القتل والعسف التي يتعرض لها مدنيون ناشطون قادمون من بلاد بعيدة. يغيب هذا الخطاب، وتتصدر بدلا منه البكائيات والمناشدات وإطلاق الأحزان، فيما العالم يحتاج إلى حقائق ووقائع حية، وإلى تظهير الدجل الإسرائيلي والممالأة الغربية له، كما تؤكدهما التحقيقات الزائفة والمرتجلة والتي لا تعاقب المذنب ولا تحاسب أحدا، بشأن مثل تلك الجرائم التي راح ضحيتها أولئك الأجانب مثلا.

وكان جهداً محموداً ما بادر إليه نشطاء عرب وأجانب في بلجيكا وبريطانيا وإسبانيا، في رفع دعاوى أمام القضاء في هذه البلدان ضد عسكريين وجنرالات في جيش الاحتلال الإسرائيلي لمسؤولياتهم المباشرة عن جرائم قتل وقصف دامية قضى فيها ضحايا عديدون. ويذكر أن إحدى تلك الدعوى اضطرت قائدا عسكرياً إسرائيلياً سابقاً إلى عدم مغادرة الطائرة التي وصل على متنها في مطار هيثرو في لندن.

ولا يُغفل في معرض التذكير بكل ما سبق أن أصواتا حكيمة لها وزنها الاعتباري والأخلاقي في العالم، جهرت وبشجاعة بتنديدها بإسرائيل وجرائمها ووحشيتها، وما زالت طريّة في الذاكرة الرحلة إلى الأراضي الفلسطينية في مارس آذار بدعوة من الشاعر الراحل محمود درويش، وقام بها تسعة من ألمع كتاب العالم من ثمانية بلدان، بينهم اثنان حازا على جائزة نوبل، وأطلق في أثنائها البرتغالي خوسيه ساراماغو دعوته إلى وجوب قرع الأجراس في العالم بأسره للقول إن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة من جرائم ضد الإنسانية التي يجب أن تتوقف. لنتذكر هذا الرجل، ونتذكر أن نجمة السينما الأميركية جين فوندا زارت فلسطين والتقت أسر شهداء ومصابين ومعوقين وجرحى، وأسفت لعدم معرفة معظم الأميركيين شيئا عن مأساة الفلسطينيين.

وهنا، يجدر التأكيد على وجوب أن يرتقي العمل المدني والأهلي والحقوقي، وكذلك السياسي الفلسطيني، باتجاه إشاعة خطاب إنساني يعطي الأولوية لقيم العدالة والسلام والحق والتعايش، لما في ذلك كله من نفع كبير، بدل الخراب المحزن القائم والمتواصل باتجاه القيعان إياها، والذي كان ماثلا وفادح الحضور في أثناء قدوم سفينتي صيد على متنهما 44 ناشطا أجنبيا إلى غزة، من أجل حريتها وحرية أهلها.

من يوثّق مبادراتهم ويحمي أسماءهم من النسيان؟ : لنتذكر دائما المتضامنين في العالم مع شعب فلسطين
 
04-Sep-2008
 
العدد 42