العدد 42 - أردني
 

محمود الريماوي

بين أشهر السنة يمثّل رمضان الشهر الأكثر حيوية وحراكاً اقتصادياً واجتماعياً فضلاً عن طابعه الروحي، أياً كان الفصل الذي يحل فيه هذا الشهر-المناسبة الدينية. المناسبات الأخرى مثل الأسبوع الأخير من السنة الميلادية الذي يحل فيه عيد الميلاد (الكريسماس) ورأس السنة الميلادية الجديدة، لا تنافس رمضان، وإن كانت تجاوره في التميز والأهمية. وذلك لقصر فترة الأعياد المسيحية والعدد الأقل للمسيحيين، مقارنة بشهر رمضان الذي يعقبه عيد الفطر بأيامه الثلاثة.

ولَمّا كان شهر رمضان يأتي مسبوقاً باستعدادات وتحضيرات، تشمل الأسر والأفراد والأسواق بمناشطها العديدة، وحتى الدولة التي تتخذ الاحتياطات اللازمة بما يتعلق بالمواد الغذائية وحركة المرور وما يجري في السهرات الرمضانية التي تنجو من أحكام الاجتماعات العامة، فإنه يسهل في ضوء ذلك تصور مدى الزخم الاقتصادي والاجتماعي في هذه المناسبة بما يستحق أن يحفز خبراء الاقتصاد على دراسة "اقتصاديات رمضان"، وعلماء الاجتماع على الوقوف أمام الثابت والمتغير في الروابط الاجتماعية والفردية في هذا الشهر.

هناك من يلاحظ ان إدراج الشهر المبارك في دائرة الرسملة ، يماثل ما تعرضت له مناسبات دينية مسيحية مثل الكاريسماس وأعياد الميلاد في الغرب وخارج الغرب .فهناك ما يمكن تسميته صناعة الكريسماس وعيد الميلاد التي تشارك فيها قوى السوق والإنتاج والخدمات على أوسع نطاق.

ما يقع عندنا من تغير السلوكيات والأنشطة، يحدث مثله في غالبية الدول والمجتمعات المسلمة، كما لدى تجمعات المسلمين وبعض تعدادها بالملايين، في بلدان ومجتمعات غير مسلمة.

منذ قرون استقرّ أن شهر رمضان لدى المسلمين هو مناسبة لأداء فريضة دينية، وهو في الوقت نفسه فرصة للترويح عن النفس وكسر النمط التقليدي للحياة اليومية وإطلاق الاحتفالات الجماعية. في دول مثل مصر والمغرب فإن الاحتفالات والسهرات التي يمتزج فيها ما هو ديني بما هو فني واستهلاكي، ترجع لقرون عدة مضت. المدفع والقطايف والموالد والتزاور والسهر حتى موعد السحور (ساعة الفجر) هي بعض مفردات النمط الجديد للحياة في رمضان. بذلك نجح غالبية المسلمين من طرف خفي في كسر الرتابة التي تميز نمط الحياة المحافظة، في ظل تسامح أبدته الهيئات الدينية والمراتب الاجتماعية، وهو ما بدأ يضيق في العقد الأخير.

مع تطور وسائل الإعلام وأنماط الاستهلاك في المدن ومع انتشار وسائل الدعاية والترويج، تعرضت هذه المناسبة الدينية إلى استثمار مكشوف حدَّ الاستغلال، ثم إلى ما يشبه الاختطاف من قوى السوق وآليات، التي رأت في هذه المناسبة موسماً استثمارياً لا مثيل له، بصرف النظر عن مدى "التقوى" التي يتمتع بها المتنفذون المستثمرون.

قبل موجة الغلاء في العام الجاري، كان اقتراب حلول هذه المناسبة في كل عام يقترن بموجة غلاء آنية مفاجئة تتركز على المواد الغذائية والتموينية، ولا تلبث أن تنتقل إلى تجهيزات العيد من ملابس وأحذية وسواها. بذلك ظهرت ومنذ أمد غير قصير، محاولات رسملة رمضان، بجعله فرصة استثمارية لتوسيع السوق ومضاعفة شهية الاستهلاك. عادات الجمهور في رمضان بالإقبال على الاستهلاك الاستعراضي، تلاقت مع حنكة رأسماليين في اهتبال الفرص لتعظيم أرباحهم، فإذا بالمناسبة الدينية وما يحف بها من عادات، تتحول إلى مصدر حرج وعبء على الأسر ذات الدخول المتوسطة والمتدنية. فقد استقر في جاري العادات أن شهر الصيام والصبر وتحمل التضحيات، بات مناسبة للإكثار من تناول الطعام والأشربة وتنويعها. الفضائيات العربية ومنها "الأردنية" تخصص برامج ممتدة لتحضير وجبات شهية لا محل فيها للبساطة والتواضع ولا حتى للقواعد الصحية.

عدا برامج الأطباق الشهية ودونها ضيق ذات اليد، لملايين من المشاهدين، تتسابق الفضائيات على إنتاج مسلسلات قليل منها ذو قيمة وأغلبها غث أو مكرر. ميزانيات ضخمة تُرصد لإنتاج وشراء وتسويق هذه المسلسلات. ميزانيات أقل لكنها كبيرة تُخصص لبرامج مسابقات بمشاركة ورعاية مؤسسات تجارية، تضيف كلفة هذه الرعاية إلى كلفة السلع التي يتزود بها المستهلك. في النتيجة يدفع المواطن من جيبه ثمن هذه التسلية المؤقتة، فضلاً عن تنمية روح التطلع إلى الإثراء السريع بجوائز كبيرة عبر طرق سهلة، أو ببركات حظ مفاجىء سعيد وهو نشاط سابق على رمضان ويتواصل خلال هذا الشهر..

الإعلانات والدعايات تواجه أنظار الجمهور أينما تحرك في الشوارع ومفارق الطرق وواجهات وجدران البنايات. وتلاحق المستهلك أمام بيته مع الصحف ومع المطبوعات الإعلانية المجانية وعبر جهاز التلفزيون، وأخيراً وليس آخراً على شاشة الجهاز الخلوي.

الاستهلاك بإغراءاته ووفرته يحاصر المستهلك، الذي يواجه صعوبة في توفير احتياجاته الأساسية وفي إقناع أفراد الأسرة بالحد من التطلعات الاستهلاكية. شهر رمضان يشهد تضاعفاً في هذه الموجة. وما تناهى إلى أسماع المواطن من مرويات عن حياة البساطة في أزمنة سالفة خلال هذا الشهر، يتحول أمام ناظريه إلى موسم للشراهة والاستعراض والمباهاة الاجتماعية وكثير منها بصورة فجة.

لتدارك هذه الفجوة وسدّها تنشط مظاهر من التكافل الاجتماعي من مساعدات مكتومة وغير مكتومة، ومن موائد الرحمن التي نشأت في مصر منذ عقود وانتقلت إلينا. وهي مظاهر مقبولة ومحببة، غير أنها تؤسس لقبول العوز كأمر واقع بدل تغييره، وتعتريها بعض الشوائب، كإقامة الموائد بعيداً عن المناطق الفقيرة، وكتسلل موسرين شطّار للإفادة من هذه الخدمات المخصصة أساساً للفقراء.

على هامش هذه النشاطات الخيرية، تزدهر مهنة التسول التي تشهد تنظيماً متزايداً يتسلل من خلاله ممتهنو هذه المهنة، بخاصة من نساء ومن شبان ينتحلون صفة الاكتهال والإعاقة الجسمانية، إلى البيوت والمؤسسات، مع ما يحف بذلك من محاذير اجتماعية وأمنية.

من حسن التدبير أن وتيرة الرقابة الحكومية ترتفع في شهر رمضان، لكن هذه الرقابة تطال بعض السلع والخدمات دون غيرها. وتبادر نقابات مواد غذائية أساسية لتحديد الأسعار؛ فيما تحجم غيرها. يظل المواطن بذلك تحت رحمة مبادرات تتم أو لا تتم، ورقابة جزئية. والأسوأ أن شطراً كبيراً من أبناء الشرائح الوسطى، يقع تحت وطاة الانجراف إلى حمى الاستهلاك، مع ما يولده ذلك من تحفيز للتجار ومن عسر مالي للمستهلكين. منحة المئة دينار التي حظي بها الموظفون والعاملون في المؤسسات الحكومية ومتقاعدو الضمان، تثير الشهية لإنفاق مئات من الدنانير. بدلاً من سدّ الحاجات الملحّة تشهد الحياة الاقتصادية موجةً من التضخم وتضعف القدرات الشرائية.

جمعيات حماية المستهلك والصحافة الجادة مدعوة لنشر قيم الحد من الاستهلاك غير الأساسي القابل للاستغناء عنه. تبدو المشكلة أكبر في ضوء تشبع الأجيال الجديدة وتأثرها بقيم الاستهلاك، ما يولد خلخلة اجتماعية واضطراباً ملحوظاً في السلوك والقيم. ليست وسائل الاتصال وحدها المسؤولة عن هذا الاضطراب، بل كذلك الآباء وأولياء الأمور من المتدينين وغيرهم، ممن يرددون بحضور وعلى مسامع أبنائهم اليافعين وقائع وحكايات مثيرة عن فرص الإثراء السريع، عبر بيع وشراء الأراضي والعقارات والسيارات والأسهم ولو بالاقتراض والرهن. وهي موضوعات مفضّلة لتبادل الأحاديث ولا تختفي في أمسيات رمضان.

تجري الحياة في شهر رمضان، بنسق جديد يحمل البهجة والتسرية عن النفس، وهو ما يلحظه زوار أجانب وغير المسلمين، بخاصة في الأمسيات المضيئة. وذلك بعد نهار شاقّ وساخن. ينقص هذه المناسبةَ الروحية في بلادنا قدرٌ أكبر من الأنسنة وإشاعة الفن الرفيع، ومقدار أقل من رسملة هذه المناسبة.

المناسبة الروحية تتحول إلى موسم استثماري: قوى السوق تخطف شهر رمضان وتضعه في دائرة الرسملة
 
04-Sep-2008
 
العدد 42