العدد 41 - أردني
 

في أواسط خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً في العام 1955، كان حجم تصريف المياه في نهر الأردن 1.287 بليون متر مكعب سنوياً؛ لكنه الآن لا يتجاوز 200 مليون م3 سنوياً. فالنهر لم يعد اليوم أكثر من سيل صغير مثقل بمخلفات المصانع الكيماوية الإسرائيلية والمياه المالحة وما قد يفيض من مياه اليرموك، أحد روافد نهر الأردن الرئيسية.

تحول النهر على هذا النحو هو، باختصار، قصة هذه المنطقة وإرثها الجغرافي والسياسي الذي حددت معالمه سياسة الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين. فما إن أُعلنت دولة إسرائيل في 1948، حتى استُكملت خطط كانت بدأتها الوكالة اليهودية، بوصفها الذراع التنفيذي للحركة الصهيونية، في أوائل عشرينيات القرن الماضي، لإحكام السيطرة على أحد أهم وأكبر مصادر المياه العذبة في منطقة طبيعتها صحراوية ومصادر المياه فيها محدودة تتنازع عليها أكثر من دولة.

يتألف نهر الأردن من التقاء 3 روافد رئيسية تنبع من الجولان وجبل الشيخ وتشكل ما يعرف بالحوض الأعلى للنهر. هذه الروافد هي الحاصباني، وينبع من لبنان، وبانياس، واللدان وينبعان من سورية، ويبلغ إجمالي التصريف فيهما 500 مليون م3. يستمر مجرى النهر إلى بحيرة طبريا فيما يعرف بالحوض الأوسط – مروراً بالطبع بوادي الحولة أو ما كان يعرف ببحيرة الحولة قبل أن تجففها إسرائيل غداة إعلانها العام 1948. يقدر دفق المياه في طبريا بحوالي 660 مليون م3، بمساحتها البالغة 170كم2 ما يجعلها تتسع لستة أضعاف الدفق السنوي الداخل إليها و8 أضعاف الدفق الخارج منها إلى ما يعرف بالحوض الأدنى لنهر الأردن. يمتد هذا الحوض مسافة 200 كم ويبدأ من التقاء نهر اليرموك؛ الذي ينبع من جبل الشيخ، ليشكل الحدود الطبيعية بين الأردن وسورية؛ مع مجرى النهر المغادر من طبريا ليشكل الحدود الطبيعية بين الأردن وإسرائيل. وتقدر إيرادات النهر من اليرموك بحوالي 500 مليون م3 (في السنوات المطيرة).

وهكذا تتشارك 4 دول في مياه النهر من بدايته إلى نهايته في البحر الميت هي: الأردن، وسورية، ولبنان، وإسرائيل. لم تستطع هذه الدول أن "تتوافق" على صيغة لاستغلال نهر الأردن، فأخذت كل واحدة منها تقوم بمشاريع فردية لتؤمن حصتها من النهر دون أدنى اعتبار لحقوق الدول الأخرى. إلا أن الأثر الأبلغ على النهر كان في المشاريع الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن في الحوض الأعلى حيث المنابع، لتصب بالكامل في خزانات المستوطنات من الساحل الغربي وصولاً إلى النقب في الجنوب.

الباحثة السورية فداء الحوراني، في بحث بعنوان "كلنا شركاء"، نشره موقع مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية www.dctcrs.com مطلع العام الجاري، تعيد بدايات الاهتمام بنهر الأردن إلى العام 1867 عندما نظمت مؤسسة استكشاف فلسطين، وهي مؤسسة بريطانية، البعثة الأولى من مهندسين مختصين لتقييم الموارد المائية في المنطقة.

في العشرينيات من القرن الماضي أعقب هذه المحاولة الاستكشافية، مشاريع عديدة كان أهمها مشروع روتنبرغ الذي بدأ تنفيذه العام 1926 بعد حصوله على امتياز من الانتداب البريطاني لاستثمار مياه الأردن واليرموك في نقطة تلاقيمها في جسر المجامع، من أجل توليد الطاقة الكهربائية لمدة 70 عاماً. تزامنت هذه الخطوة مع تأسيس شركة المياه الإسرائيلية "ميكوروت" لإدارة المياه في الدولة اليهودية التي ستقوم.

إلا أن المشروع الأهم الذي استندت إليه استراتيجية المياه الإسرائيلية لاحقاً كان مشروع لوذرفيلك العام 1938. هذا المشروع أوصى بتجفيف بحيرة الحولة وتحويل نهر الأردن الأعلى (شمال طبريا) لري مرج ابن عامر وسهول بيسان ومن ثم نقلها إلى النقب. هذا التحويل لا يقتصر على المنابع في الحوض الأعلى للنهر، وإنما يعني أيضاً تحويل نهر اليرموك (في الحوض الأدنى) بقناة صناعية لتخزين مياهه في بحيرة طبريا التي سيتأثر منسوب المياه فيها (ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الملوحة فيها) بعد تحويل المنابع في شمالها.

بدأ تطبيق هذا المشروع العام 1951 في إطار ما يعرف بـ"خطة إسرائيل"، وذلك بتجفيف بحيرة الحولة. الأمم المتحدة لم تستجب للاعتراضات العربية على هذا الإجراء. وتزامناً مع هذا، اختارت إسرائيل موقعاً على بحيرة طبريا ليكون نقطة لتحويل مجرى الأردن؛ وذلك بضغط أميركي بعد احتجاج سوري لدى الأمم المتحدة، عندما اختار الإسرائيليون بداية أن يقيموا هذه النقطة في "جسر بنات يعقوب" ضمن المنطقة منزوعة السلاح آنذاك بين سورية وإسرائيل.

في المقابل، عملت إسرائيل على إفشال اتفاقية وقعها الأردن مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) العام 1953، لتنفيذ "خطة بنغر" لإقامة سد على نهر اليرموك في منطقة المقارن بسعة تخزينية مقدارها 480 مليون م3، وبناء سد ثان في العدسية لتحويل المياه المحجوزة إلى قنوات بدفع الجاذبية على طول الأغوار الشرقية في الأردن. هذا المشروع كان سيروي 435 ألف دونم في المنطقة ويولد الكهرباء بطاقة 28300 كيلواط في السنة، بالإضافة إلى توطين 100 ألف نسمة في منطقة الأغوار.

لكن الولايات المتحدة دخلت من باب آخر في محاولة لحل مشكلة المياه في المنطقة. الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور أرسل في 1953، مبعوثة الخاص إيريك جونستون لوضع خطة تقاسم المياه والمشاركة فيها. الخطة، التي خضعت لأكثر من تعديل ضمن مفاوضات بين العرب وإسرائيل، أفضت في نهاية الأمر العام 1955 إلى تقسيم المياه على النحو الآتي: يحصل الأردن على 52 بالمئة من مياه النهر (أي 720 مليون م3 سنوياً)، وتحصل إسرائيل على 32 بالمئة (أي 400 مليون م3)، وسورية على 13 بالمئة (أي 132 مليون م3)، ولبنان 3 بالمئة (أي 35 مليون م3).

وكان لافتاً أن الخطة قضت بأن تحصل إسرائيل على حصتها "مما يتبقى من مياه النهر" بعد أن تأخذ الأطراف الأخرى حصصها.

لكن الجانبين العربي والإسرائيلي لم يصادقا على الخطة. جونستون أكد لاحقاً أن الخطة كانت مقبولة "فنياً" لدى الأطراف المعنية إلا أن الاعتبارات السياسية مثل الاعتراف الضمني بإسرائيل حالت دون أن تتبناها جامعة الدول العربية.

وحاول الأردن الاستثمار في الخطة واتخاذها مرجعية له في سياسته المائية، فبدأ العام 1957 بإنشاء قناة الغور الشرقية التي عرفت لاحقاً باسم قناة الملك عبد الله.

وكان يقصد من القناة أن تكون جزءاً من مشروع "اليرموك الكبير" الذي يشمل بناء سدين على اليرموك هما: المخيبة والمقارن، وإنشاء قناة الغور الغربية وبناء 7 سدود لاستغلال الدفق الموسمي من الأودية التي تصب في نهر الأردن، وبناء محطات ضخ وقنوات جانبية. وكان يفترض أن توفر هذه القناة 25 بالمئة فقط من مياه الري في الأغوار. استكملت المرحلة الأولى من القناة في 1964 بطول 70كم لري 122 ألف دونم بين العدسية شمالا ودير علا جنوبا (وهي الآن تمتد 110كم وتروي 171 ألف دونم).

ظافر العالم، وزير المياه الأسبق، يروي أن الفكرة من قناة الملك عبد الله كانت "جلب المياه من نهر اليرموك عبر نفق تحويلي، ومن خلال إقامة سد هناك، بالإضافة إلى المياه من طبريا من خلال خط ناقل". إلا أن إسرائيل أفشلت هذه الخطط مرة أخرى عندما عارضت بناء سد الوحدة (حتى العام 1988). إذ إنها في حرب العام 1967، التي كانت حرب مياه بامتياز، فهي هدفت إلى تدمير الخطط العربية لمقاومة خطط تحويل مجرى النهر، سيطرت على أكثر من نصف نهر اليرموك طولاً، بعد أن كانت تسيطر على 10كم فقط قبل الحرب. وعلى الرغم من أن الأراضي التي احتلت في هذه الحرب تعتبر من وجهة نظر القانون الدولي غير شرعية، فإن إسرائيل أصبحت تطالب بأن يكون توزيع جديد للمياه جزءاً من أي تسوية في المنطقة، بما في ذلك حصة من نهر اليرموك. وفي المقابل استمرت في بناء الناقل المائي بزعم أنه ينسجم مع خطة جونستون الذي أعطاها 400 مليون م3 سنوياً. لكن الناقل الآن يستهلك 90 بالمئة من مياه نهر الأردن في حوضه الأعلى - الأغنى بالمياه العذبة. ما يعني أن حصة الأردن من النهر هي عمليا صفر، بحسب العالم.

ويضيف أن تصريف مياه اليرموك كان يفي بالغرض، إذ كان يصل إلى 500 مليون م3 سنوياً، إلا أن هذا الدفق تناقص في السنوات الأخيرة إلى ما دون 15 مليون م3. ما أدى إلى نقص حاد في مياه القناة حتى إن آخر 14.5كم منها والتي يفترض أن تخدم 60 ألف دونم ما تزال غير مروية. كما أن إسرائيل قصدت العام 1969 أن تقصف القناة وتعطلها. وأشارت دراسة نشرتها العام 1995 جامعة الأمم المتحدة في طوكيو على الموقع الإلكتروني www.unu.edu/unupress إلى أن الأردن لم يستطع إصلاح العطل إلى ما بعد مفاوضات قادتها الولايات المتحدة امتدت من 1969 حتى 1970.

كذلك ظلت إسرائيل ترفض تزويد القناة بمياه بحيرة طبريا حتى توقيع معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1994. دريد محاسنة، الأمين العام الأسبق لوزارة المياه، يعتبر أن الحقوق المائية للأردن ظلت مغتصبة حتى توقيع المعاهدة.

ويرى كثيرون أن مكاسب الأردن من الاتفاقية تتمثل في تحديد الحصة الإسرائيلية بـ25 مليون م3 بعد أن كانت تضخ 70- 90 مليون م3 من نهر اليرموك وحده، بحسب منذر حدادين وزير المياه الأسبق في مقابلة مع فضائية عربية.

وبموجب المعاهدة، يحق للأردن أن يخزن 20 مليون م3 شتاء في طبريا على أن يستردها صيفا. كما يحصل الأردن على 10 ملايين م3 من مياه مالحة تقوم إسرائيل بتحليتها. وتتضمن الاتفاقية بندا ينص على أن يتعاون الأردن وإسرائيل على "إيجاد مصادر لتزويد الأردن بكميات إضافية مقدارها 50 مليون م3 سنوياً من المياه الصالحة للشرب." ولعدم تمكن الطرفين من إيجاد بديل، وبسبب رفض إسرائيل أكثر من حل كأن تضخ للأردن هذه الكمية من طبريا مقابل أن يدفع الأردن الكلفة التشغيلية لمحطة تقوم بتحلية الكمية ذاتها، ولكن على شاطىء المتوسط؛ وبعد اتصالات شخصية قام بها الملك الحسين، وافقت إسرائيل على أن تضخ للأردن 25 مليون م3 سنوياً من المياه الصالحة للشرب. وبهذا يصبح مجموع ما يحصل عليه الأردن من بحيرة طبريا فقط هو 55 مليون م3 موزعة كالتالي: 25 مليون م3 يتزود بها صيفاً وشتاء، 10 ملايين م3 من المياه المحلاة يتم التزود بها شتاء، 20 مليون م3 (من مخزون الأردن في طبريا)، ويتم التزود به شتاء. إلا أن الأردن عجز في العامين الأخيرين عن تخزين المياه في طبريا. العام الماضي خزن 1.5 مليون م3 فقط، ما اضطره إلى "اقتراض" 11 مليون م3 من إسرائيل.

لم تكن السياسة المدعومة بالقوة العسكرية هي السبب الرئيسي، فيما وصل فيه الوضع المائي للمنطقة من تدهور، بل ساهمت التغيرات المناخية بنصيبها أيضاً، فسنوات الجفاف المتواصلة التي شهدتها المنطقة ساهمت بنصيبها في ذلك أيضاً. ولكن تلك قصة أخرى.

مياه نهر الأردن: حين تصبح القوة من محددات الحقوق المائية
 
28-Aug-2008
 
العدد 41