العدد 41 - ثقافي
 

هيا صالح

"من الطبيعي أن تشهد الصالونات الأدبية نكوصاً في ظل الانتشار الكبير لمدونات الإنترنت المفتوحة على مدار الساعة"، هذا ما يقوله الشاعر محمد ضمرة في تفسيره لظاهرة "تلاشي الصالونات الأدبية" و"انتفاء الحاجة لوجودها"، وهي التي انتشرت بكثرة إلى وقت قريب، وكان لها دور مؤثر في احتضان الكتّاب والأدباء وتكريس مبادئ الحوار وطرح الآراء المختلفة حول المنتج الأدبي وما يستجد في المشهد الثقافي.

يضيف ضمرة، أحد رواد الصالونات الأدبية في الزرقاء وعمّان في فترة ازدهارها، أن الإنترنت فتح المجال للتواصل بين الأدباء بشكل أكبر، إذ تحتضن صفحات المواقع الأدبية الإلكترونية ومدونات الإنترنت نتاجات الأدباء وتستقبل ردود القراء عليها. فيما يرى الشاعر عصام السعدي أن المدونات لا تعوّض عن الصالونات الأدبية، موضحاً أن الأخيرة "تتيح الفرصة لالتقاء الكتّاب وتحاورهم وتتبُّع ردود أفعالهم، خصوصاً رد الفعل الفيزيائي الذي لا يمكن أن توفّره المدونات"، مقرّاً في الوقت نفسه أن المدونات تتميز بكونها لا تحتاج إلى لقاء محدد في وقت معين، إذ يستطيع المرء دخولها متى شاء، فضلاً عن انتشارها بسرعة أكبر.

تتفق مع هذا الرأي الشاعرةُ مريم الصيفي، التي يعد صالونها الأدبي من أشهر الصالونات الأدبية وأكثرها استمراريةً في الأردن، لافتةً إلى أن التواصل مع الآخرين عبر المنتدى الإلكتروني باستخدام الكمبيوتر، يفتقر إلى الحرارة الإنسانية التي يوفرها الصالون الأدبي للكتّاب والأدباء والمثقفين. وتضيف أنه رغم ما للإنترنت من أهمية في سرعة نقل المعلومات والتواصل مع شريحة واسعة من الناس، إلا أنه لا يملك القدرة على إقامة العلاقات الإنسانية الحميمة.

تقول الصيفي التي تبلورت فكرةُ الصالون الأدبي في وجدانها منذ زمن طويل: "كنت معجبة بمي زيادة وسكينة بنت الحسين وغيرهما من النساء اللواتي أسسن لمجالس أدبية ثقافية، فأقمت صالوناً أدبياً في الكويت العام 1991، قبل أن أنقل الفكرة إلى عمّان، حيث لقيت نجاحاً كبيراً"..

يرى ضمرة أن الأهداف التي وُجد من أجلها الصالون الأدبي، والتي تتمثل في فتح المجال للكتاّب لإيصال نتاجهم الأدبي لزملائهم، والاستماع لهم والتحاور معهم، كان لها ما يبرّرها في ظل شح المنابر الثقافية وقلة الصحف والمجلات التي تعنى بهذا النتاج، أما الآن، فقد كثرت المنابر وفتحت الملاحق والصفحات الثقافية مصراعيها على النتاج الثقافي، فضلاً عن انتشار وسائل التواصل التي جادت بها التكنولوجيا الحديثة من هواتف أرضية ومحمولة وإنترنت..

الكاتب أحمد أبو حليوة، الذي يواظب على إقامة صالون أدبي منذ أربع سنوات، يرى أن الصالونات الأدبية تزداد أهميةً وضرورةً، خصوصاً في ظل تسييد "ثقافة الصورة" من خلال الإنترنت والفضائيات، وطغيان النمط الاستهلاكي على إنسان العصر الذي يجد نفسه بحاجة ماسّة لما يشبه "التواصل الأسري" مع الآخرين. فضلاً عن أن الصالونات الأدبية، شكل من أشكال الحراك الثقافي الحر بعيداً عن البروتوكولات الشكلية، وهي تتيح الفرصة للقراءة والنقد وتدرّب الجيل الناشئ من الكتّاب على آلية التلقي والحوار البنّاء.

يؤكد أبو حليوة أن هذه الصالونات أقرب ما تكون إلى المسرح، فمثلما أن المسرح عُرف على مر التاريخ بأنه "أبو الفنون"، فإن الصالونات الأدبية كانت المنبر الأول للمبدعين، و"مهما تقدمت التكنولوجيا واستُحدثت الوسائل لإبقاء المرء على صلة بالعالم من حوله، يظل للعلاقة الإنسانية والتواصل البصري والحضور الجسدي أهمية لا غنى عنها".

ويتفق كتّاب ومثقفون أن الصالونات الأدبية يؤخذ عليها غلبة الآراء "المجاملاتية" إزاء ما يُقدَّم فيها من نتاج أدبي يفرض على المستمع أن يبدي رأياً أو يتخذ موقفاً غير موضوعي. لكن السعدي يذهب إلى أن المجاملات لا تقتصر على الصالون الأدبي وحده، فهي تطال المدونات التي "كنا نعتقد أن فيها مصداقية" على حد تعبيره، موضحاً: "ما تكشّف لنا هو أن المدونات تنطوي إما على مجاملات كثيرة، أو على إساءة وتجريح يكون أحياناً خارجاً عن المألوف"، وهو ما تؤكده أيضاً الصيفي مشددةً على أنه عوضاً عن المجاملة قد يتجرأ الزائر للمدونة ويكتب تعليقات مسيئة، وهذا ما لا يمكن أن يحدث في الصالون الأدبي الذي ينطوي على ضوابط "أخلاقية" و"اجتماعية" تحول دون ذلك.

وفي حين يقرّ أبو حليوة بوجود قدر من المجاملة في الصالونات الأدبية، فإنه يرى إمكان تجاوزها بالنظر إلى الإيجابيات التي تحققها هذه الملتقيات. الصيفي تنفي شيوع المجاملات، وتؤكد: "من خلال تجربتي في صالوني الأدبي لا يوجد أبداً أية مجاملة، لأن النقد هو للنص الأدبي نفسه وليس لصاحبه".

يستذكر ضمرة أيام زمان، في حديثه عن أشكال أخرى من اللقاءات تقارب فكرة الصالونات الأدبية: "كنا نلتقي في المقاهي، في أزقة وسط عمّان الضاجّة بالحركة، ثم انضوينا في عضوية الهيئات الثقافية التي وفرت لنا المناخ المناسب لإقامة ندوات وحلقات نقاش بحرية"، وفي هذا السياق يرى المتحمسون للصالونات الأدبية أن حرية التعبير وإبداء الرأي تظل أكبر في هذه الملتقيات لأنها لا تخضع لأي جهة رسمية، ولا تتلقى الدعم منها.

تفتقر هذه الصالونات للدعم الذي تحظى به الهيئات الثقافية من الجهات الرسمية، وهو ما يدفع أبو حليوة إلى دعوة المؤسسات إلى شراء ما يصدره الصالون من كتب ودوريات لدعم استمراريته، ويرى أن هذا كفيلٌ بتحقيق "استقلال اقتصادي" للصالون، ما يؤدي إلى تحقق أشكال الاستقلال الأخرى. ويقترح أن يتم الدعم على شكل مكافأة تقدَّم لصحاب الصالون، شرط أن يمضي على تأسيسه فترة لا تقل عن العام أو العامين. فيما ترفض الصيفي فكرة الدعم التي قد تقود إلى "فرض شروط"، أو تؤدي إلى رقابة على أداء الصالونات، وتصادر حريتها في اختــيار ضيوفهــا ومواضيعها، وعندها ستصبح كغيرها من الهيئات الموجودة على الساحة.

ارتبط كثير من الصالونات الأدبية عبر التاريح بأسماء نسوية. ويبدو هذا كرد فعل على ما تشعر به المرأة في المجتمعات العربية من حرمانٍ وتغييبٍ لها عن المشاركة الفاعلة في الحراك العام. المفارقة أن المرأة أصبحت اليوم بمنأى عن هذه الصالونات، تأسيساً وحضوراً، لأسباب من أبرزها عقد الصالون في وقت متأخر يحول دون قيامها بواجباتها العائلية.

بين أدباء يتطلعون للارتقاء بفكرة الصالونات الأدبية وتطويرها على مختلف المستويات والإبقاء على جذوة الحياة فيها، وبين آخرين يرون أن هذه الشعلة بدأت منذ زمن بالخفوت ولا سبيل لإعادة الوهج إليها، تظل "الصالونات الأدبية" مؤشراً على مرحلة زاهية في وجدان الثقافة والمثقفين.

في ظل سطوة المدونات الإلكترونية: الصالونات الأدبية.. هل هي إلى زوال؟
 
28-Aug-2008
 
العدد 41