العدد 40 - كتاب
 

عندما رفض صنع الله ابراهيم جائزة الرواية العربية (2003) عبّر عن لحظة توقف ربما يحتاج إليها كثير من المثقفين العرب. فلا يعقل أن يظل هؤلاء المثقفون سائرين في طريق "مرسوم لهم"، لا يلتفتون حولهم ولا يرون غير أنفسهم، فيما الناس من حولهم يتساقطون جوعاً وذلاً وحتى قتلاً. لا يعقل أن نظل نمجّد عزلتنا ونزوّق عالمنا الخاوي العقيم بجوائز وكرنفالات ولا نقف لحظة لنتساءل عما إذا كان لنا دور يُذكر في سيرورة بلداننا، أو أي أثر في مجتمعاتنا، أو أي قيمة لدى شعوبنا. نادرون هم المثقفون العرب الذين يقطعون الضجيج بلحظة صمت وتأمل ويكشفون للجمهور الحقيقة المطوية: إننا أيها السادة، من حيث ندري أو لا ندري، دُمى يحركنا أولئك، يدنون ويُقصون، ويملكون هذا المهرجان الكبير؛ نحن استثمارهم ومكياجهم.. وهذا يتعين أن ينتهي! لعل هذا ما أراد صنع الله قوله في خطاب الرفض.

يبدو أن موقف الروائي المصري أتى ببعض الثمار، فبعده بفترة قصيرة رفض الكاتب المغربي أحمد بوزفور جائزة وزارة الثقافة في بلده للأسباب الموضوعية نفسها مضافاً إليها أسباب تفصيلية أهمها قوله: "لا يمكن أن أقبل جائزة وزارة الثقافة عن كتاب طبعت منه ألف نسخة ولم أوزع إلا 500 نسخة في أسواق شعب من 30 مليون نسمة". منظمو الجائزة اتهموا الكاتب بالمزايدة، فمن غير المرحَّب به في صالاتهم النخبوية المغلقة أن يتكلم أحد عما وراء الجدران.

المفهوم النخبوي للإبداع ينتهي عند حد إنجاز العمل الإبداعي، لكن أصحابه في الغالب لا يعبأون بانتشار العمل جماهيرياً، وإنما بين "نخبة المثقفين". من حق المبدع أن يحمل هذا المفهوم، بل إن تركيزه على الإنجاز وحده، مبعداً القارئ والناقد من اهتمامه، يجعله أكثر صدقاً مع نفسه، وبالتالي أكثر قرباً إلى القارئ دون قصد مباشر. أما مدى التلقي الجماهيري للأعمال الابداعية، والذي يحدده المستوى الثقافي العام للمجتمع، فمسؤولية لا يتحملها المبدع، وإنما النظام المتحكم بالثقافة؛ المسؤول عن رعاية المبدعين وعن قدرة المواطنين المادية على تلقي هذا الإبداع.

الذي يحدث مع الثلة الشجاعة من مثقفينا هو أنهم يجدون أنفسهم، في لحظة صدق شديدة مع الذات، كما لو كانوا متواطئين في عملية فصل الثقافة عن الشعب وفصل الشعب عن الثقافة، وأن الجوائز المقدمة لهم هي مكافأتهم على هذا التواطؤ، وعندها تنفجر ضمائرهم رافضة تلك الجوائز.

يشعر عدد من الكتاب بالإحباط لكونهم "غير مقروئين" في بلدانهم، مع أنهم ليسوا الطرف الوحيد المقصّر في هذه الحال. فالحديث عن نسبة "القراء" في المجتمع (مثل النسبة الصادمة التي ذكرها بوزفور) هو حديث عن الواقع العام برمته، لا الواقع الثقافي فقط. فأن تكون مقروءاً يعني أن تعيش وسط بيئةِ نسبة المتعلمين والخريجين فيها عالية ونسبة التخلف الثقافي فيها ضئيلة، والقدرة الشرائية لمواطنيها معقولة تمكّنهم من شراء الكتاب وتذكرة المسرح، وبحيث تكفي 8 ساعات عمل لتوفير متطلبات حياة كريمة بما في ذلك التمتع بالفنون والآداب. صحيح أن الممارسة الثقافية، إنتاجاً أو تلقياً، فردية غالباً، لكن شروطها موضوعية بلا شك. الإبداع ذاتي، لكن حضوره وتأثيره يستحيل دون توفر ظروف موضوعية معينة. كذلك الحال مع عملية التلقي الثقافي. إنها ممارسة فردية، لكنها لا تتاح للفرد، إلا في ظل ظروف مشجعة. أو لنقل ببساطة: إن من لا يجد قوت يومه لا يأبه بالروايات، ناهيك عمن فاز بجائزتها!

ليس المقصود الظروف المادية وحدها، فثمة عوامل مكملة وتفاصيل لا تقل أهمية. مثلاً إن كثرة خريجي التعليم الجامعي لا تنهي المشكلة أو تغير الواقع الثقافي. فالأمر يقودنا إلى نوعية وحالة التعليم عموماً في بلداننا، وهي حالة لا تبشّر بخير من حيث المحتوى والوسائل والأثر المفترض أن تخلقه في شخصية الفرد. هذه عناصر فاعلة في مسألة علاقة الفرد بالثقافة. كما إن كثرة الخريجين تذكّرنا -شئنا أو أبينا- بكابوس البطالة بعد التخرج، وهي كذلك ليست الحالة المثلى للاهتمام بالثقافة. مثل آخر: نسبة إنفاق الدولة على تطوير الواقع الثقافي بكل مستوياته (مثلاً، كم أنفقت الحكومات العربية لكي تمحو أمية 100 مليون مواطن، وكم أنفقت على البحث العلمي وتوفير بنى ثقافية تحتية؟!)، والموضوع ليس كمية الإنفاق وحسب، وإنما وجهته، ومضمونه كذلك.

المثقف ليس بريئاً تماماً من المسؤولية عن تردي مستويات الممارسة الثقافية عموماً، ومستوى القراءة خصوصاً، فعليه يقع جزء معين من هذه المسؤولية.

* كاتب عراقي يقيم في السويد

سمير طاهر*
 
21-Aug-2008
 
العدد 40