العدد 40 - ثقافي
 

رشا سلطي

ثريّا، فلسطينية مولودة في بروكلين، تعود إلى أرض أجدادها المسلوبة لتحصّل بعضاً من حقوقها التي ضاعت مع ما ضاع في العام 1948. بمجرد وصولها إلى المطار حاملةً جوازاً أميركياً، تكتشف ثريا نوعَ الحياة وطبيعة المعاناة التي يعيشها أهلها الفلسطينيون في وطنهم، وتعرف معنى الحواجز والإغلاق، ومعنى أن تكون فلسطينياً.

في رام الله، تلتقي ثريا بعماد، شاب من مخيم الأمعري يحلم بالحصول على تأشيرة للرحيل إلى كندا، وتقع في غرامه، وهناك تتحول إقامتها في وطنها إلى رحلة لاكتشاف الهوية والذات والتاريخ الذي يصبح مرجعية كل شيء. هذا هو موضوع فيلم «ملح هذا البحر» الذي كتبت له السيناريو وأخرجته المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، والذي عُرض في مهرجان كان السينمائي، أهم مهرجان للسينما في العالم.

منتجو الفيلم متعددو الجنسية، بينهم الممثل والمنتج الأميركي داني غلوفر. ومصادر التمويل متعددة أيضاً؛ سويسرية وبلجيكية وإسبانية وبريطانية وهولندية، إضافة إلى أموال أميركية وفلسطينية. وستتولى عملية توزيع الفيلم عالمياً شركة «بيراميد» الفرنسية.

كانت مصادفة مأسوية، أن الفيلم عُرض في مهرجان كان في السادس عشر من أيار/مايو الماضي.

المخرجة آن مــاري جاسر وذكرت خلال تقديـــم فيلمها في عرضه الأول عالمياً: "أنا فخورة بأن يُعرض الفيلم في هذا المهـــرجان بعد يوم من إحياء الفلسطينيين لذكرى مرور ستين عاماً على النكبة".

في ما يلي مقالة عن الجو الذي رافق عرض الفيلم في مدينة السينما الفرنسية.

**

للتجارب الأولى في الحياة أهميتها الخاصة، ولكن لا شيء في ثقافتي أو تجربتي العملية هيأني لتجربتي الأولى في مهرجان كان للسينما. دفق المشاعر الذي اعتراني تضاعف ثلاثاً وحتى أربعاً، فأول عرض كنت أنوي حضوره هناك كان أول فيلم روائي لمخرجة عزيزة على قلبي؛ آن ماري جاسر، والفيلم هو «ملح هذا البحر». الممثلة الرئيسية في الفيلم «سهير حماد»، هي إحدى شاعراتي الفلسطينيات المفضّلات، وهي صديقة عزيزة على قلبي. في الأسابيع التي سبقت سفري، كنت أحاول أن أتخيل تلك اللحظة التي ألتقي فيها بهذا العمل. لكن ذلك كان مستحيلاً، فلم أستطع أتخيل وجوه آن ماري وسهير أو كمران.

وجوه حبيبة، أليفة وقريبة مني، في تلك اللحظة المبهرة في مهرجان كان ببريق من الأضواء التي لم أعرفها إلا من خلال شاشة التلفزيون أو على صفحات المجلات. فكرت بالمدرسة الابتدائية التي ارتادتها آن ماري في السعودية. هل كان لزميلاتها في الدراسة أن يتخيلن أن هذه البنت طويلة القامة ذات الشعر الأجعد والاسم الغريب قد تتمكن يوماً من ارتقاء درجات مهرجان كان المفروش بالسجاد الأحمر وهي في هذه السن الصغيرة؟ وفكرت بالجنود الإسرائيليين المتمركزين على الجسر الموكلين بإذلال المغتربين الفلسطينيين الذين يزورون بلداتهم وأسرهم، والذين تحققوا يوماً من أوراقها وجواز سفرها، هل عرفوا أنها كانت تخزن صوراً وحوارات وتحلم بآلاف النصوص السينمائية، وأن أول فيلم لها سيقودها للعتبات المفروشة بالسجاد الأحمر في كان؟ فكرت في والدها، واللحظة التي أعلنت له أنها تنوي دراسة السينما؛ فكرت في اللجنة بجامعة كولومبيا التي استعرضت طلبها للتسجيل في كلية السينما؛ خطرت لي اللحظات الأولى للقائي بها صدفةً في نيويورك عندما قالت لي بشكل تلقائي إنها تعمل على نص لفيلم روائي، لمعت في عينيها نظرة مشاكسة... هذا هو ما يصنع التميز: سلسلة من اللحظات التي تبدو عادية بسيطة، تتصاعد زمنياً في حياة يومية وعادية، إلى أن يأتي القدر بتحول استثنائي، فترتقي شابة أطول من المعتاد، بشعرها الأجعد واسمها الغريب ومخيلتها مطلقة العنان، والتي تعيش متنقلة بين فلسطين والعالم، درجات مهرجان كان السينمائي المفروشة بالسجاد الأحمر، لتكون أول مخرجة فلسطينية يقبلها المهرجان. أن تقر هذه المؤسسة التي تمثل صناعة السينما الدولية بهذا الإنجاز، لهو أمر مميز وعظيم. الإنجاز بحد ذاته معجزة، والمعجزات نتاج بشري؛ هي حصاد إصرار وجرأة ممزوجين بعناد وقلب متفتح مفعم بالكرم والصراحة، وبشهية لامتناهية للعمل الشاق، وظمأ لا يرتوي لنقد واضح للذات.

«ملح هذا البحر» هو أول معجزات آن ماري؛ فهو وُلد رغم صعوبات تفوق التصور؛ فهي صنعته بيديها وأيدي فريق استمد منها الوحي والإلهام للعمل في بلد يعيش تحت الاحتلال وفي عالم يمحض المحتل دعماً أخلاقياً كبيراً.

يوم الافتتاح، كانت السماء ملبّدة وتنذر بحدوث مكروه، لكن الهواء لم يكن بعد رطباً صبيحة يوم العرض. لكن المكان كان مزدحماً بالحضور رغم المطر، فلم تكن تلك زخات ربيع خجولة، بل كانت عاصفة هوجاء انهمر فيها المطر بقوة حتى وصل العظم.

كانت عيناي تبحثان عن نجومي الأحباء عندما انطلقت موسيقى الفيلم في مكبرات الصوت. تسارعت نبضات قلبي، أحسست بالغبطة، كنت أضحك دونما سبب، وكدت أقفز من السعادة.

حجزت مقعداً في الصفوف الأولى من الجانب الأيمن من المسرح. أردت أن أجلس قريباً من المسرح لأرى وجوههم. خفتت الأنوار. ودعا صوت في الميكروفون إلى إسكات الهواتف النقالة، وأُعلن عن اسم الفيلم واسم المخرجة آن ماري. عندها أحسست أنني أخوض تجربة خارج حدود هذا العالم. وبدت هالة من الضوء على مدخل المسرح أطل منها رجل يلبس بدلة بربطة سوداء ويلف عنقه بكوفية؛ مشى بخطى سريعة إلى الأمام واعتلى المسرح. صفق الحضور. كان تيري فريمون، مدير المهرجان. ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وكأنه يحيي بحرارة الفيلم وفريقه. لمس الكوفية وقال إنها هدية. كففت الدمعة الأولى. ثم أعلن عن دخول المنتجين والمخرجة وطاقم التمثيل في الفيلم. عبروا إلى المسرح، ووراءهم جسر من النور يتبع خطاهم. اعتلوا المنصة. الثانية، الثالثة، الرابعة. هذه دموعي التي انهمرت بعد ذلك من دون توقف. امرأة تجلس جواري شعرتْ بشيء من الضيق من الميلودراما التي اعترتني.

بدت آن ماري مذهلة في فستان أبيض بسيط مطرز بخيوط صفراء محمرة. بساطتها وجمالها الطبيعي كان خلاباً. سهير حماد كانت رائعة في فستانها الزيتي الذي التفّ حول جسمها الرشيق؛ زهرة بيضاء زينت حلقات شعرها البني، وبابتسامتها المضيئة بدت وكأنها تحيي ألق سينما الأربعينيات أو الخمسينيات. صالح بكري، بدا طويلاً ورشيقاً وأنيقاً في بدلة فُصلت خصيصاً له، وكأنه نجم جامعي من أيام زمان، تظهر فيه الرجولة الأنيقة التي غابت عن صناعة السينما. لكنهم جميعاً كانوا يلبسون الكوفية. لم أبحث في أرشيف مهرجان كان لأعرف إن كانت تلك المرة الأولى أم لا.

بأي حال، لا يبدو ذلك مهماً الآن، ولم يكن مهماً لي وأنا أجلس بين الحضور، أنظر إليهم وهم يؤكدون انتماءهم لفلسطيني بكثير من الكبرياء والسرور. لـ«ملح هذا البحر» قائمة طويلة من المساعدين في الإنتاج من ثماني دول. لم يعتلوا جميعاًَ المسرح، لكن الذين اعتلوه منهم كانوا موشحين بالكوفية، بمن فيهم داني غلوفر، نجم السينما الأميركي الذي اتجه مؤخراً إلى الإنتاج. فريمون دعا للحديث كلاًّ من جاك بايدو، منتج الفلم الرئيسي، وداني غلوفر وآن ماري. بصوتها الذي ارتعش قليلاً من هيبة الموقف وقوة المشاعر، ذكّرت آن ماري الحضور بأنه في العام 2008 يكون قد مضى 60 عاماً على النكبة: مجد إسرائيل وكارثتنا؛ احتفالاتهم وصمتنا. وبكرمها المعروف عنها وحصافتها في الكلام، دانت بالفضل إلى الجهد والحب الكبير الذي بذله فريقها لجعل فيلمها حقيقة.

غادروا المنصة، أُطفئت الأنوار. ولمع المشهد الأول على الشاشة. صور بالأبيض والأسود عن النكبة؛ بداية أحزاننا التي توارثناها جيلاً بعد جيل؛ الغربة الأبدية بالرغم من جوازات السفر وبطاقات الهوية: بعضها بلا مكان، وبعضها من أي مكان انتهينا إليه.

«ملح هذا البحر» ذكّرني بإحدى أقدم الترجمات لكلمة سينما بالعربية «دار الخيالة». ماذا لو رجعنا إلى فلسطين، نحن الناس العاديين، أبناء أبناء اللاجئين؟ ماذا لو ذهبنا إلى البنوك التي حفظ فيها أهالينا مدخراتهم وطالبنا بالثروات التي اغتُصبت؟ ماذا لو زرنا البيوت التي أخذها الإسرائيليون منا ليسكنوا فيها؟ ماذا لو حدقنا في عيونهم، رجل لرجل، امرأة لامرأة، وأخبرناهم أننا نريد استرجاع بيوتنا؛ فقط هكذا؟ ماذا لو قررنا أن نبني بيوتاً من وسط الخراب في القرى التي تهدمت؟ ماذا لو رجعنا إلى وطننا بشروطنا نحن؟ الوطن حيث يفترض أن يكون، وليس وطناً جديداً يأتي من صفقات مشبوهة يتفاوض فيها رؤساء دول لم يذوقوا قط طعم الذل من أن تكون بلا وطن. هذا بالضبط ما يفعله شاب وشابة في «ملح هذا البحر». يفعلان الشيء عينه الذي حُرّم علينا حتى في الخيال. آن ماري جاسر استعادت حقنا في أن نتخيل بحرية جريئة لا تخاف.

سؤال الهوية الفلسطينية في مهرجان “كان” .. “ملح هذا البحر”: استعادة الحقّ في خيال حُرّ
 
21-Aug-2008
 
العدد 40