العدد 1 - اقليمي
 

بعد قرنين من وصول بونابارت إلى مصر وما تبعه من سقوط الإمبراطورية العثمانية قبل 80 عاماً و50 عاماً على انتهاء السياسة الاستعمارية وأقل من 20 عاماً على انتهاء الحرب الباردة، ها هي الحقبة الرابعة في التاريخ المعاصر والمعروفة بحقبة السيطرة الأميركية في الشرق الأوسط قد وصلت إلى نهايتها.

وتتزايد بإطراد صعوبة تشكيل الشرق الأوسط من الخارج، إلا أنها ستكون تحدياً، ولعقود عديدة مقبلة، للسياسة الخارجية الأميركية إضافة إلى إدارة المسألة الآسيوية.

شهد القرن الثامن عشر ولادة الشرق الأوسط المعاصر، ويعتبر بعض المؤرخين أن الحادثة الأبرز كانت في عام 1774 التي تمثلت بتوقيع اتفاقية إنهاء الحرب بين الامبراطورية العثمانية وروسيا. أما دخول نابليون لمصر بسهولة في 1798 فقد يكون سبباً أهم، إذ إنه نبّه الأوروبيين إلى أن المنطقة غدت لقمة سائغة للغزو، وحفز ذلك الكتاب والمفكرين العرب والمسلمين للتساؤل... كما يفعلون الآن. لم تراجعت حضارتهم إلى هذا الحد خلف أوروبا المسيحية.

وتزامن سقوط العثمانيين مع الاختراق الأوروبي للمنطقة ببروز «السؤال الشرقي « بخصوص كيفية التعامل مع آثار تداعي الإمبراطورية العثمانية... وهذا هو السؤال الذي حاولت أطراف عديدة الاجابة عنه منذ ذلك الوقت وبما يخدم مصالحها.

أنهت الحرب العالمية الأولى هذه الحقبة وانتهت الدولة العثمانية، وأسست الدولة التركية وتم تقسيم مكاسب الحرب بين المنتصرين الأوروبيين. وهنا ظهر عهد الاستعمار الذي سيطرت فيه فرنسا والمملكة المتحدة. انتهت هذه الحقبة بعد حوالي أربعة عقود امتصت الحرب العالمية الثانية قوة الأوروبيين، وبرز تيار القوميين العرب واضعاً القوتين العظميين في موقف المترقب.

«يحكم العالم من يتحكم بالشرق الأوسط، ومن لديه مصالح في العالم، فإنه حتماً يجد نفسه مهتماً بالشرق الأوسط» كان هذا ما قاله المؤرخ البرت حوراني الذي توصل بنجاح إلى أن أزمة السويس 1956 كانت وراء إنهاء السياسة الاستعمارية في المنطقة وهنا بدأت حقبة الحرب الباردة. وكما كان الحال سابقاً، فإن القوى الخارجية لعبت دور المسيطر في الشرق الأوسط.

إلاّ أن طبيعة الدور التنافسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد اعطى لدول المنطقة دوراً ثميناً للمناورة والتحرك.

وبرز مدى التأثر السلبي الأميركي والدولي للسيطرة على إمدادات النفط وعدم استقرار الأسعار عندما تم استخدام النفط كسلاح اقتصادي وسياسي.وخلقت الحرب الباردة سباقاً حصلت من خلاله دول الشرق الأوسط على حرية ذاتية مميزة لمتابعة شؤونها. أما الثورة الإيرانية عام 1979 التي أسقطت أحد أهم أركان السياسة الأميركية في المنطقة، فقد أثبتت أنه لا يمكن للدخلاء ان يتحكموا في الأحداث الداخلية. وقاومت الدول العربية محاولات الولايات المتحدة لاقناعها بالدخول في مشاريع تحالفية مناهضة للاتحاد السوفييتي. وأدى احتلال إسرائيل للبنان عام 1982 إلى بروز حزب الله، واستهلكت الحرب الإيرانية العراقية هاتين الدولتين لعقود.

الهيمنة الأميركية

بدأت الحقبة الرابعة في تاريخ المنطقة، بانتهاء الحرب الباردة وانتهاء الاتحاد السوفييتي. وتمتعت الولايات المتحدة خلالها بنفوذ غير مسبوق وحرية تامة في التصرف. وكان تحرير الكويت من المظاهر المميزة للسيطرة الأميركية وكذلك التمركز طويل الأمد للقوات الأميركية البرية والجوية في شبه الجزيرة العربية. أضف إلى ذلك المحاولات الدبلوماسية النشطة لمحاولة التوصل إلى حل نهائي للنزاع العربي الإسرائيلي والذي ظهر في محاولة الرئيس كلينتون الجادة والفاشلة في كامب ديفيد وقد أظهرت هذه المرحلة، وأكثر من أي مرحلة أخرى تعبير «الشرق الأوسط القديم».

تميزت المنطقة بعراق عدواني محبط وإيران مفككة متشددة وضعيفة نسبياً، وإسرائيل كقوة رئيسية والأقوى في المنطقة إضافة إلى كونها القوة النووية الوحيدة، أسعار نفط غير مستقرة، وأنظمة عربية رئيسة ظالمة لشعوبها، واستفحال للعداء بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب.

قبل انقضاء عقدين من الزمن انتهت هذه الحقبة نتيجة عدة عوامل بعضها كان تلقائياً والأخرى مصطنعة.

وكان قرار الرئيس بوش بمهاجمة العراق عام 2003 ومن ثم التنفيذ متبوعاً بالاحتلال، جاعلاً الأغلبية السُنّية ضحية، وهي التي كانت قوية وذات دوافع كافية لتحجيم إيران الشيعية. وطفت إلى السطح التوترات السنية – الشيعية في العراق والمنطقة بأكملها، وقد كانت كامنة حيناً من الوقت. استطاع الإرهابيون التمركز في العراق مطورين ومصدرين تقنياتهم الجديدة، واقترنت الديمقراطية بالفوضى ونهاية التسلط السني.

أما الشعور المضاد لأميركا والقائم منذ حين، فقد تعزز ونتيجة لانشغال الجزء الأكبر من الجيش الأميركي، إذ خفضت هذه الحرب من الوجود الأميركي عالمياً. ومن المهازل التاريخية أن بدأت حرب العراق هذه الحقبة الأميركية بينما ساهمت الحرب الثانية على إنهائها.

وبخصوص العوامل الأخرى المتعلقة بالمسألة نفسها، فأحدها موت عملية السلام في الشرق الأوسط، فلطالما تمتعت الولايات المتحدة بالقدرة الفريدة التقليدية على التعامل مع العرب وإسرائيل، الا ان حدود هذه القدرة كشفت في كامب ديفيد عام 2000، ومنذ ذلك الحين ساهم ضعف خليفة ياسر عرفات، وظهور حماس، وقدرة إسرائيل السياسية على تنحية الولايات المتحدة في تعزير هذه الخطوة بعدم اتخاذ ادارة الرئيس بوش الخطوات الجدية لمتابعة الدبلوماسية النشطة.

وساهم أيضاً في إنهاء هذه الحقبة فشل الأنظمة العربية التقليدية للحد من الحركات الإسلامية الراديكالية. واجهت الولايات المتحدة قرار الاختيار بين من توقعوا كونهم قادة فاسدين، ومن هم متدينون، وقد فضل الكثيرون في المنطقة الانحياز إلى الفئة الثانية.

وجاءت أحداث 9/11 لتوضح لقادة الولايات المتحدة مدى عمق الصلة بين المجتمعات المنغلقة وبين رعاية الراديكاليين الأصوليين. وقد كانت شدة ردة الفعل لديهم سبباً في تمكين الإرهابيين ومشجعيهم من انتهاز العديد من الفرص للتقدم أكثر من السابق، وان كان أغلب ردود الفعل دافعاً سريعا لانجاح الانتخابات ودون اعارة الانتباه للأوضاع السياسة المحلية.

وفي النهاية، فإن العولمة قد غيرت المنطقة وبات أكثر سهولة للراديكاليين أن يحصلوا على تمويل واسلحة وأفكار ومتطوعين. وأدى نشوء وسائل الإعلام العصرية، وبخاصة الفضائيات التلفزيونية، إلى تحويل المنطقة العربية إلى قرية كبيرة ومن ثم تسيسها. وأغلب المشاهد المعروضة في هذه الفضائيات من عنف ودمار في العراق ولقطات لعراقيين ومسلمين يخضعون لسوء المعاملة والمعاناة في غزة والضفة الغربية والآن في لبنان، ساهمت في كراهية الشرق الأوسط للولايات المتحدة. وكنتيجة لذلك فان الحكومات في الشرق الأوسط تجد حرجاً وصعوبة في التعاون علناً مع الولايات المتحدة وان النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط قد تراجع.

ماذا يخبيء المستقبل؟

ما زالت معالم حقبة الشرق الأوسط الخامسة في طور التكوين، ولكنها حتماً متصلة بنهاية الحقبة الأميركية. وفي ما يلي اثنتا عشرة صفة تميز سياقات الأحداث اليومية:

أولاً: ستبقى الولايات المتحدة تتمتع بالنفوذ في المنطقة أكثر من أي قوة خارجية أخرى، غير أن هذا النفوذ سيكون أقل مما كان عليه في السابق.وهذا يعكس التأثيرالمتزايد للقوى الداخلية والخارجية، وتقلص القوة الأميركية ونتائج الخيارات السياسية الأميركية.

ثانياً: ستشهد الولايات المتحدة ازدياداً في التحديات السياسية الأجنبية لها، وسيقدم الاتحاد الأوروبي بعض المساعدات في العراق، ومن المحتمل أن يدفع بتوجهات أخرى للمسألة الفلسطينية.

ستعارض الصين اي ضغط على إيران محاولة الحصول على ضمانات لإمدادات الطاقة. أما روسيا فستعارض فرض عقوبات على إيران، وستحاول إظهار استقلاليتها عن الولايات المتحدة. وستنأى الصين وروسيا والعديد من الدول الأوروبية عن محاولات الولايات المتحدة للترويج للتعديلات السياسية في الدول غير الديمقراطية في الشرق الأوسط.

ثالثاً: ستكون إيران إحدى الدولتين الأقوى في المنطقة، وأما هؤلاء الذين ظنوا أن إيران على وشك إدخال تغييرات ديمقراطية فتيقنوا أنهم مخطئون في هذا الظن. فإيران غنية جداً ولها نفوذ قوي خارجي في العراق، وكلمة مسموعة لدى حماس وحزب الله. إن إيران قوة تقليدية مهيمنة لديها طموحات لإعادة ترتيب الوضع في المنطقة بهذه الصورة مع ترجمة أهدافها إلى واقع.

رابعاً: اما الدولة الثانية الأقوى في المنطقة فهي إسرائيل التي تعد الوحيدة في المنطقة ذات الاقتصاد الذي يرقى إلى صفات العالمية، وتملك ترسانة نووية وقوتها العسكرية الأقوى، غير أن عليها تحمُّل أعباء احتلالها للضفة الغربية متعاملة بذلك مع جهات وتحديات متعددة.

واستراتيجياً، فإن موقف إسرائيل أضعف اليوم عما كان عليه قبل الأزمة اللبنانية وبالتحديد في الصيف الماضي، وسيسوء أكثر، وكما هو الحال في الولايات المتحدة، إذا ما طوّرت إيران سلاحها النووي.

خامسا: من غير الواضح أن تلوح بُشرى لسلام وإن كان ضعيفا في المستقبل، فبعد عمليات إسرائيل في لبنان فإن حكومة كاديما ذات الأغلبية ستكون أضعف من القيام بإسناد لأية سياسة قد تتصف بأية مخاطرة أو عنف. أما فك الاشتباك فهو غير محتمل الآن، وبخاصة بعد انسحاب إسرائيل من لبنان وغزة، وعدم وجود اي طرف فلسطيني لديه القدرة على قبول التنازل أو يتنازل بالفعل مما يعطل فرص إجراء المفاوضات.

لقد فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها على الأقل في الوقت الراهن. بينما ستستمر إسرائيل بسياسة توسيع المستوطنات وبناء الطرق معقدة بذلك المحاولات الدبلوماسية.

سادساً: اما العراق الذى يعد مركز الشرق القوي في الشرق الأوسط تقليدياً، فيتبقى في وضع متأزم وحرج لسنوات عديدة تحت ظل حكومة مركزية ضعيفة ومجتمع مفكك وعنف طائفي مسيطر، وأسوأ الاحتمالات انه سيغدو دولة فاشلة تحطمها حرب أهلية شاملة التي ستمتد إلى الدول المجاورة.

سابعاً: سيبقى سعر النفط مرتفعاً بسبب ازدياد طلب الصين والهند عليه، والفشل في حد الاستهلاك في الولايات المتحدة، والتهديد المستمر في تراجع الإنتاج.

ومن المرجح ان يرتفع سعر البرميل إلى ما فوق 100 دولار ولن ينخفض إلى ما دون 40 دولاراً معطياً ذلك الفرصة لإيران والسعودية للربح غير المحسوب.

ثامناً: ستستمر الميليشيات بالنمو وتزداد قوة، وكذلك الحال في الجيوش الخاصة في العراق ولبنان والمناطق الفلسطينية. وهذه المليشيات هي نتيجة ضعف الدولة، وكلما ظهر عجز فعلي في السيطرة والإمكانيات فيها ازدادت قوة الميليشيات. ويثبت ذلك القتال الذي دار مؤخراً في لبنان حيث كسبت منظمة حزب الله الحرب من خلال عدم تعرضها لهزيمة شاملة بينما خسرت إسرائيل الحرب بعدم تحقيقها نصراً تاماً معطية ومعززة لحزب الله ومؤيديه الجرأة.

تاسعا: الإرهاب هو: استعمال القوة ضد المدنيين لتحقيق اهداف سياسية. وسيبقى يسم المنطقة، وهو ينمو في بيئة تكون فيها المجتمعات مفككة مثل العراق ومجتمعات تسيطر عليها الراديكالية طمعا في إضعاف الحكومات وسحب الثقة منها مثل السعودية ومصر. ستستمر الحرب ضد الارهاب بطرق متطورة، وستبقى أداة تستخدم ضد إسرائيل والوجود الأميركي وقوى أخرى غير معروفة.

عاشراً: سيطغى الإسلام على الأوضاع السياسية والثقافية في العالم العربي واضعاً الأسس لسياسات الأغلبية في المنطقة. ان القومية العربية والاشتراكية هي شيء من الماضي، أما الديمقراطية فهي في أحسن الظروف، ستتحقق في المستقبل البعيد. فقد تعزز وجود إيران ومن يرتبط معها وتأزمت المحاولات لتوطيد العلاقات بين الحكومات العربية والولايات المتحدة، وستنمو الهوة في المنطقة بين السنة والشيعة مسببة الازمات في المجتمعات المنقسمة مثل: البحرين، ولبنان، والسعودية.

حادي عشر: ستبقى، وعلى الأغلب، الأنظمة العربية مسيطرة وضائقة ذرعاً بالتيارات الدينية المعادية للولايات المتحدة، وأهمها مصر والسعودية اللتان وضعتا اصلاحات اقتصادية ويشكل سكانهما ثلث السكان في العالم العربي. غير أن هذه السياسات فشلت بل على العكس فإن النظام المصري، وفي تصميمه على إسكات التقدميين القلة فقد فرض على الشعب اختيار إما الحكومة القائمة أو الإخوان المسلمين. وتكمن الخطورة هنا اذا ما اختاروا الاخوان ليس لأنهم يفضلونهم بل لأنهم سئموا من الحكومة الحالية. وعكسه فإن النظام قد يتشبه بالإسلاميين المعارضين في محاولة لتحجيمهم وعرقلتهم للنأي بأنفسهم عن الولايات المتحدة.

اما في السعودية، فإن الحكومة والصفوة من العائلة المالكة يعتمدون على توظيف الدخل الضخم للسيطرة على المطالبات بالتغيير، والمشكلة هي أن التغييرات التي تمت وأذعنت لها الحكومة كانت بضغط من الوازع الديني وليس من تيار الإصلاح التقدمي مما جعل التأييد يتجه نحو تشجيعه اجندة التيار الديني.

الشرق الأوسط الجديد: وداع الهيمنة الأميركية – ريتشارد هاس
 
08-Nov-2007
 
العدد 1