العدد 40 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

رأى النور في العام 1923 في "المغيّر"، من قرى إربد، التي طالما تغنى عرار بعين مائها "راحوب"، قبل أن تجف وتصير أثراً بعد عين.

عرف التنقل في طفولته بحكم عمل والده الموظف.

درس الثالث الابتدائي في مدرسة اللاتين بعجلون، حيث استوقفه المعلم روكس بن زائد العزيزي. "ما شدني إليه أنه كان يقدم التاريخ لنا بوصفه صوراً، وليس سرداً مملاً". يستذكر المؤرخ عبد الكريم غرايبة.

عاد إلى إربد ولم يجاوز العاشرة من عمره، منتسباً لمدرسة حسن كامل الصباح، وهي الوحيدة التي تدرّس الرابع الابتدائي من سيل الزرقاء وشمال.

أكمل دراسته في السلط الثانوية، وكانت أجواؤها مفعمة بالسياسة. "عندما مات الملك فيصل الأول اعتقدنا أن الإنجليز قتلوه فثرنا وتظاهرنا، وكذا الحال عندما توفي العالم اللبناني حسن كامل الصباح، كانت عقلية المؤامرة مستحكمة فينا"، يشرح غرايبة.

حال أنهى المترك في العام 1942، قصد بيروت دارساً للطب في جامعتها الأميركية، نازلاً عند رغبة والده الذي كان يحلم بأن يصير ابنه طبيباً في إربد. لكنه فشل فشلاً ذريعاً في الطب، وتحول لدراسة التاريخ كي لا يعود خالي الوفاض.

ظل الأب عند موقفه، وحتى حين نال ابنه شهادة الدكتوراه في التاريخ قال له مستاء: "لن تغادر إربد فقط، بل ستغادر الأردن بأكمله".

أقسم يمين الولاء لحركة القوميين العرب في بيروت العام 1945، لكنه لم يستمر معهم.

غداة ابتعاثه لدراسة التاريخ في لندن، اعتزم كتابة أطروحته عن الملك فيصل الأول، لكن خطبة لتشرشل نشرت في "التايمز" في كانون الثاني/يناير 1940 غيرت من تفكيره، فقد حذر فيها على طريقة الرئيس بوش في أيامنا هذه، مما أسماه مراكز الإرهاب الثلاثة التي تهدد الغرب، وهي: لينين، وأتاتورك، ورمضان شلاش!

"لم يكن رمضان شلاش إلا بدوياً من قبيلة زبيد العراقية، قائداً لفصيل يتجول في بادية الشام، جاء إلى دير الزور فوجد ضابطاً إنجليزياً يحكمها، فاقتحم مكتبه وطرده، وصار ياوراً لدى الملك عبد الله الأول".

في لقاء مع نائب الملك، سفير العراق في لندن الأمير زيد، حثه الأمير على تغيير موضوع أطروحته قائلاً: هل تريد شهادة الدكتوراه فقط، أم تريد أن تتعلم!

أجاب: أريد طبعا أن أتعلم.

قال: إذاً ابحث عن موضوع إنجليزي كي يكون الموضوع أليفاً للذين سيناقشوك فيه.

وهكذا كان. فقد حاز غرايبة الدكتوراه في العام 1947 عن أطروحته "التجارة الإنجليزية في سوريا في القرن الثامن عشر"، وما زال يذكرها للأمير زيد، مشيراً إلى أن الأمير رعد بن زيد كثيراً ما سأله لماذا لم يكتب عن الملك فيصل. "الحق أنني ظللت متقيداً بنصيحة الأمير الأب رحمه الله".

عمل غرايبة في التدريس بجامعة دمشق لثماني سنوات، ثم انتقل للعمل في جامعة الملك سعود بالرياض.

زواجه في العام 1956 كان "تاريخياً" أيضاً، فقد تقدم لفتاة سورية من عائلة مرموقة، تدعى "بيهمال"، وهو اسم فارسي مرادف لـ"بناظير"، التي ليس لها نظير. استقبال عائلتها له لم يكن على مستوى الطموح، لكن الموقف تبدل في الأسبوع التالي، عندما طرد الملكُ الحسين الجنرالَ كلوب، حيث أصبح الجو أكثر حميمية وقبولاً. وكان النصيب.

زار الأردن برفقة عدد من الشخصيات السورية لتهنئة الملك الحسين بتعريب قيادة الجيش، وتذكره الملك الراحل، فقد سبق لغرايبة أن طلب مقابلة جلالته، لكن الحاشية أخطأوا وأدخلوه على أنه السفير الهولندي! وكانت تلك المفارقة مدعاة لتندر الحسين منه.

استدعي إلى الأردن منتصف الخمسينيات، وعمل مديراً لدائرة الآثار، بيد أنه أُبعد من منصبه ونُقل مفتشاً إلى وزارة التربية. وظيفته الجديدة لم تعجبه، فقفل مسافراً إلى دمشق، لكنه يشدد بأنه لم يكن لاجئاً سياسياً.

عمل في الجامعة الأردنية منذ تأسيسها في العام 1962 أستاذاً للتاريخ. "أنا أقْدَم شيء في الجامعة، بل إني أقدم حتى من أي طوبة أو ورقة فيها، يفاخر غرايبة الذي ما زال أستاذَ شرف، لا يتقاضى راتباً أو تقاعداً.

راتبه التقاعدي الوحيد يتقاضاه، نظير تعيينه عضواً في مجلس الأعيان لمرة واحدة في العام 2005.

قبيل حرب 1967، كان المؤرخ مدركاً أن هزيمة ستحيق بنا، فقد سمع في نيسان من ذلك العام، أن هناك من يخطط لحرب توريط تشكل كارثة قد تُحدث صدمة عند العرب فيفيقوا. يشير إلى أن سعيد التل نقل في جلسة لاحقة عن وصفي تعقيبه على ذلك بالقول: "هذه الكارثة ستكون طويلة المدى، ولن تؤدي إلى صحوة، وتضيع بسببها الضفة والجولان وسيناء وجنوب لبنان".

يصف الحسين بأنه "قائد يمتاز ببعد النظر، وله مبادرات، وقد فزع لي عندما وقف وصفي التل، رئيس الوزراء في حينها، ضد تعييني في الجامعة الأردنية".

ويشير إلى أن الرئيس عبد الناصر "إنسان غير طبيعي، فذ، أبعد رؤية من صلاح الدين الأيوبي، إنما بحظ أقل، غير أنه استحواذي، لا يهمه أن يبرز غيره مثل صلاح الدين أيضاً".

ويرى أن حافظ الأسد "رئيس دولة دقيق في أعماله، على النقيض من عبد الناصر"، ويرى أن صدام حسين "عروبي من الطراز الأول، وطني شديد الاندفاع وليس قائداً، لا قيمة لأرواح الناس عنده".

يسكن غرايبة الذي ناهز الثمانية والثمانين عاماً، أي 1052 شهراً قمرياً بحسبته، وحيداً بعد وفاة زوجته قبيل عشر سنوات، وله ابن واحد، رائد، حقق أمنية جده وصار طبيباً.

لم "يسأم تكاليف الحياة" على طريقة عمرو بن كلثوم، حين أدرك الثمانين، وما زال يخدم نفسه بنفسه يقرأ ويواصل البحث والتأليف.

"بعض التاريخ ظن، وكثير منه من إملاء الهوى"، يقول ول ديورانت في "قصة الحضارة"، "بخاصة حين يعتمد على المذكرات"، يزيد غرايبة، "لأن المتقدم في السن يخطئ حين يتصور أموراً يتمناها".

.. على الباب، في حديقته التي يوليها عنايته، قال وهو يودعني: العمر "قراقرة". سألته عن المعنى، أجاب: "هو اصطلاح فلاحي، فبعد أن يُجمع القمح ويذرَّى على البيدر، ويوضع في شوالات، يبقى بعض الحَبّ مختلطاً بالتراب، ويصعب فصله عنه، فتأتي نسوة فقيرات يجمعن ذلك الحب بصعوبة.. فهو قراقرة.. أي بقايا، العمر الآن بقايا".

عبد الكريم غرايبة: قدموه للحسين بوصفه سفيراً لهولندا!
 
21-Aug-2008
 
العدد 40