العدد 39 - ثقافي
 

محمود شقير

رحل محمود درويش وهو في قمة عطائه الشعري وتألقه الإبداعي الذي عبرت عنه قصائده الأخيرة. لرحيل محمود كل هذه الوحشة التي تركت محبيه وأصدقاءه وجمهوره الغفير، في حالة من الذهول والأسى. ذلك أن درويش شكل في زمن الانهيارات الفلسطينية والعربية الراهنة، سنداً للأمل وقامة للتفاؤل وفرصة للاعتقاد بأن ثمة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

تعرفت إلى محمود درويش أول مرة في العام 1975 في بيروت. وكان من المتوقع أن ألتقيه في حيفا العام 1968، حينما ذهبت بعد عام من هزيمة حزيران، صحبة صديقين آخرين في رحلة إلى حيفا وشفاعمرو، لزيارة أصدقاء تعرفنا إليهم في القدس بعد الهزيمة. كان محمود درويش وسميح القاسم، يعملان آنذاك في صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية الناطقة باسم الحزب الشيوعي. وكنت قرأت لمحمود ولسميح ولتوفيق زياد وغيرهم من الشعراء الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم، قصائد نشرها الكاتب الشهيد غسان كنفاني، الذي أسهم في التعريف بهم قبل العام 1967 وبتقديمهم للقراء وللمثقفين العرب، الذين فوجئوا بهذه الكوكبة من الشعراء، ممن يكتبون شعراً له سماته الخاصة الطالعة من إصرار عنيد على مقاومة الجلادين، وعلى التشبث بالأرض وحمايتها، ما أمكن، من المصادرة والاستيطان، وعلى حماية الثقافة الوطنية الفلسطينية التي كانت تجري محاولات صهيونية دائبة لتبديدها ولطمسها.

غير أن ظروفاً طارئة حالت دون لقائي بمحمود آنذاك. وحينما التقيته في بيروت بعد سنوات، كان قد قطع شوطاً متقدماً في مسيرته الشعرية، التي ظل يصقلها ويطورها حتى وصل بها إلى ذرى عالية، جعلته واحداً من أبرز شعراء عصرنا، ومكنته من التعبير عن القضية الفلسطينية، على نحو يتجاوز الرؤى المحدودة المباشرة المنتمية إلى مفاهيم متزمتة، ظلت تصر على تنميط صورة درويش، وتحاول حشره في إطار جاهز، يريحها أن تراه فيه، لأنها تعودت عليه، ولم تستوعب بسهولة تمرده على ذلك، نظراً لإخلاصه الدائم لتجربته الشعرية ولشروطها الفنية، التي ينبغي لها ألا تظل حبيسة تصورات ثابتة، ما دامت الذائقة الجمالية ترتقي دوماً ولا تعرف الثبات، وما دامت ثقافة الشاعر نفسه وتجاربه الحياتية تغتني وتتطور باستمرار.

ولعل أكثر ما عانى منه محمود وهو يطور أدواته الفنية ويرتقي بمشروعه الجمالي في الشعر، هو هذا الصراع المعلن وغير المعلن مع جمهوره أولاً ومع بعض النقاد ومتذوقي الشعر ثانياً. فالجمهور الذي أحب قصيدة «بطاقة هوية»، وترنم زمناً على صيغة: «سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف» بما تشتمل عليه من إثارة للمشاعر القومية المشروعة، ومن مباشرة وبساطة في التلقي، لم يبد استعداداً كافياً لتقبل قصيدة مثل «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» أو قصيدة: «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق».

ومع ذلك، فإن محمود درويش لم يخضع لمتطلبات الذوق السائد، ولم يعمد إلى تملق عواطف الجمهور حفاظاً على الشهرة وعنصر التواصل المطلوب. لكنه لم يدر ظهره لهذا الجمهور الذي محضه الحب والإعجاب، فقد ظلت هناك خيوط اتصال عديدة بينه وبين محبي شعره. وفي حين بقي مخلصاً، في الدرجة الأولى، لهذا الشعر ولشروط تطوره الفني، وفي حين بقي مخلصاً في الوقت نفسه، لقضيته الفلسطينية، ولما فيها من أبعاد مأساوية وإنسانية، تؤهلها لأن تكون قضية كونية عامة، فقد واظب على إلقاء شعره الجديد دون تهيب، على الجمهور الذي ظل معجباً بطريقة إلقائه المدهشة للشعر، وظل مشدوداً لما في أصعب قصائده من إيقاعات مستمدة من ولائه لإيقاعات الشعر العربي وأوزانه وموسيقاه، ومن حرص على عدم التفريط فيها لما تشتمل عليه من مزايا فنية لا تستحق الإهمال. وظل مشدوداً في الوقت نفسه إلى تعبيرات محمود المتنوعة عن الهم الوطني المتجسد في شعره على نحو سافر حيناً، وغير سافر حيناً آخر، خصوصاً في قصائده ودواوينه التي تحتفي بالحب وبكل ما هو شخصي مما يؤرق أي إنسان في عصرنا الراهن.

ولعل في إصرار درويش على تطوير أدواته الفنية دون التفات إلى صيحات بعض النقاد وبعض متذوقي شعره، الذين أخذوا عليه ابتعاده عن صورته الأولى، ونأيه عن شعر المقاومة، بالكيفية الضيقة التي ترى في الانتقال إلى أفق أوسع انحرافاً عن المألوف، لعل في هذا الإصرار، تعبيراً أكيداً عن قناعة الشاعر بما ينجزه، وفيه تعبير عن فهمه لوظيفة الأدب عموماً والشعر خصوصاً في حياة الناس.

ففي الحوارات العديدة التي أجريت معه في السنوات الأخيرة، دافع عن تطوره الشعري اللاحق، ورأى أن أدب المقاومة ينبغي ألا يحصر نفسه في إطار ضيق، ما يعني إفقار هذا الأدب وإفقار المردود الذي سيعود على القضية االوطنية جراء ذلك. وما زلت أذكر لقاء أجراه معه عدد من الصحفيين في عمان، بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى في العام 1987 ، حيث كثر آنذاك التغني بذكر الحجارة في قصائد بعض الشعراء العرب والفلسطينيين وهم يشيدون بأطفال الحجارة المشاركين في تلك الانتفاضة، حينما انتقد المباشرة الزائدة في تلك القصائد، وقال ما مفاده: «إن شعر الانتفاضة هذا بحاجة إلى عشرة آلاف عامل لكي ينظفوه من الحجارة». والسؤال الآن: أين هو ذلك الشعر الذي اتكأ على الانتفاضة وعلى حجارتها، ولم يبذل أصحابه جهداً كافياً لكي يضمنوا شعرهم قيماً فنية وجمالية راقية، تضفي على مادتهم المصطفاة من ميادين الانتفاضة رونقاً وبقاء وجدارة!.

في هذا الصدد يصح التساؤل: هل يعقل اتهام محمود درويش وهو يتحول إلى شاعر عالمي بارز، بالتخلى عن القضية الفلسطينية سعياً وراء جائزة نوبل! وهل يعقل اتهامه بالمساومة على القضية القومية لشعبه، وهو ينقلها عبر قصائده الجديدة، إلى ذرى أكثر علواً، ويدخلها في الوقت نفسه إلى وعي الملايين من بني البشر، باعتبارها واحدة من أهم قضايا الحرية في عالمنا المعاصر!.

برحيل محمود درويش، فقدنا هامة شعرية وإنسانية عالية. وستفتقده كل من عمان ورام الله اللتين أقام فيهما، وظل يتنقل بينهما في السنوات القليلة الماضية إلى أن وافته المنية، ستفتقده بيروت ودمشق وتونس والقاهرة والجزائر والدار البيضاء، ومدن عربية وأجنبية أخرى مشى في شوارعها وجلس في مقاهيها وأنشد في قاعاتها قصائده، ستفتقده القدس التي كتب عنها ولم تتح له الفرصة للعيش فيها. وستظل قريته الأم: البروة، بأرضها المصادرة وبأنقاضها الباقية، تحن إلى فتاها العبقري الملهم الذي خلد اسمها واسم فلسطين، بشعر متألق مدهش باق على مر الزمان.

لمحمود درويش المجد والخلود، ولأمه وأشقائه وشقيقاته، ولأصدقائه ومحبيه ولشعبه الفلسطيني وشعوب أمته العربية، ولقراء شعره على امتداد العالم، أحر عزاء.

درويش في رحلة الإياب: صراع خلاّق مع الجمهور
 
14-Aug-2008
 
العدد 39