العدد 39 - ثقافي
 

جعفر العقيلي

أواخر شباط/فبراير الماضي، وعلى مسرح البلد بوسط عمّن القديمة، وفي احتفاء جماهيري يليق به، وَشَّحَ درويش كتابه الأخير "أثر الفراشة" بتوقيعه، معلناً وهو محفوفٌ بمحبّيه الذين حوّطوه بالتبجيل أن "الشعر ما زال ممكناً وضرورياً".

الحفل الأخير لم يكن حفلَ توقيعٍ عادياً. كذا هو شأن درويش دائماً، الشاعر والإنسان.. هو أقرب إلى موعدٍ مع "كلّ هذا الضوء في شاعر" بحسب تعبير زهير أبو شايب الذي قدم للأمسية مؤشراً على تنقّل درويش كما الفَراش بين النصوص، متحدّياً الشعر بالنثر والنثر بالشعر.. "كما هو دائماً يخلخل ذائقتنا، باحثاً عن الشيء ونقيضه وعن الشيء في نقيضه"..

أطلّ الشاعر على عشاقه، واعتلى "الشعرُ" المنصّةَ ليواجه فيضاناً من الثرثرة كادت الذائقةُ تعتاد عليه. وعبر تتبُّع أثر الفراشة، كان اللقاء بين الشعر وجمهوره مثابةَ اختبار حقيقي، دأب درويش على خوضه بين حين وآخر راكناً إلى النتيجة التي يشتهيها: محبّة الجمهور والتفافه حوله.. وكان الشاعر وقّع في العام الفائت "كزهر اللوز أو أبعد" وسط حشد مماثل في المكان نفسه، الذي اتسع رغم ضيقه ليستوعب آلافاً من الصبايا والشباب –مثقفين وغير مثقفين- تزاحموا على أبوابه، وحول مدخله، وصفّقوا كثيراً لشاعرهم المفضّل دون منازع؛ في ما هو بصوته الناضح بالحزن يستهلّ قراءاته بـ"البنت/الصرخة" مستذكراً حكاية هدى، تلك التي اغتالت قذيفةٌ صهيونية عائلتَها التي كانت تتنزه على شاطئ غزة:

"يا أبي! قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!

لم يُجبْها أبوها المسجّى على طلِّه

في مهبّ الغيابْ

دمٌ في النخيل، دمٌ في السحابْ

يطيرُ بها الصوتُ أعلى وأبعد من

شاطئ البحر. تصرخ في ليل برية،

لا صدى للصدى.

فتصير هي الصرخة الأبدية في خبر

عاجلٍ، لم يعد خبراً عاجلاً

عندما

عادت الطائراتُ لتقصفَ بيتاً بنافذتَين وبابْ".

في تلك الأمسية استغلّ درويش بنباهةِ الشاعرِ الطاقةَ القصوى للّغة والإيقاع في نصه "البيت قتيلاً"، الذي بدا شبيهاً بما عرفناه في شعر أبي تمام والمتنبي والموشحات، المبنيّة على أواخرها، إذ بدأ بالجزئيات والتفاصيل، متصاعداً بتدرّجٍ حتى يبلغ الكليّة: الحكمة.

"بدقيقة واحدة، تنتهي حياةُ بيت كاملة. البيتُ قتيلاً هو أيضا قتلٌ جَماعيّ حتّى لو خلا من سُكّانه. مقبرةٌ جَماعيّة للموادّ الأوليّة المُعدّة لبناء مبنىً للمعنى، أو قصيدة غير ذات شأن في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بتر الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر. وحاجة التّراجيديا إلى تصويب البلاغة نحو التبصُّر في حياة الشّيء. في كلّ شيء كائنٌ يتوجّع... ذِكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صُورة. والبيوت تُقتَل كما يُقتَلُ سكّانها. وتُقْتَل ذاكرةُ الأشياء: الحجر والخشب والزّجاج والحديد والإسمنت تتناثرُ أشلاء كالكائنات".

وتلا في أمسيته الأخيرة نصاً بملمح آخر يذهب باتجاه التأمل، هو نصّ «البعوضة»، كاشفاً عن عنايةٍ خاصة في بناء النص، ومظهراً مهارته الفائقة في صنع المشهد وبلاغة الصورة، منتهياً إلى:

«البعوضةُ، ولا أعرفُ اسمَ مذكَّرِها، ليست استعارةً ولا كِناية ولا تورية. إنّها حشرةٌ تُحبّ دَمك وتشمُّه عن بُعد عشرين مِيلا. ولا سبيلَ لك لمساومتِها على هُدنة غير وسيلة واحدة: أن تُغيِّر فصيلةَ دَمِك!».

عرّى درويش في «بندقية وكفن» آخر أوراق التوت ممّا يدور من صراعٍ بين الإخوة الأشقّاء:

«لن يهزمني أحد. ولن أنتصر على أحد - قال رجل الأمن المقنَّع المكلَّف مهمّة غامضة. أطلق النار على الهواء، وقال: على الرصاصة وحدها أن تعرف من هو عدوّي. ردّ عليه الهواء برصاصة مماثلة. وتابع سارداً سيرة الخيبة في واقعٍ مرّ تختلط فيه الأوراق: «وحين عاد إلى بيته في المخيّم متكئاً على بندقيته، وجد البيتَ مزدحماً بالمعزّين، فابتسم لأنه ظنَّ أنهم ظنّوا أنه شهيد، وقال: لم أمت!. وعندما أخبروه أنه هو قاتل أخيه، نظر إلى بندقيته باحتقار، وقال: سأبيعها لأشتري بثمنها كفناً يليق بأخي».

لم يجد درويش، ناحتُ «الجدارية»، بُدّاً من الإعداد لمشهدٍ أخيرٍ يرتضيه لنفسه في انتظار من سيأتي بلا موعد/الموت، وذلك في نصه «بقية حياة»:

«أعدّ غدائي الأخير

أصبّ النبيذَ بكأسين: لي

ولمن سوف يأتي بلا موعد،

ثم آخذ قيلولة بين حلمين

لكن صوت شخيري سيوقظني..

ثم أنظر في ساعة اليد:

ما زال ثمة وقتٌ لأقرأ

أقرأ فصلاً لدانتي ونصفَ معلَّقَةٍ

وأرى كيف تذهب مني حياتي

إلى الآخرين، ولا أتساءل عمّن

سيملأُ نقصانَها».

يذكر أن «أثر الفراشة» صدر مطلع هذا العام عن دار رياض الريّس، وهو آخر أعمال درويش المنشورة في كتب، وإن كان نشر عدداً من القصائد بعد هذا الكتاب، منها قصيدة «على محطة قطار سقط عن الخريطة»، ونص عن المنفى.

درويش تتبع “أثر الفراشة”: “الشعر ما زال ممكناً”
 
14-Aug-2008
 
العدد 39