العدد 39 - ثقافي
 

عواد علي

ظل الروائي الروسي الكسندر سولجنتسين (1918- 2008) مشاكساً ومثقفاً إشكالياً حتى وفاته فجر الاثنين 4 آب/أغسطس 2008. كان معارضاً شرساً للنظام القمعي الستاليني في الاتحاد السوفييتي طوال أربعة عقود، وحين عاد في العام 1994 إلى بلاده، بعد مضي خمس سنوات على سقوط المعسكر الاشتراكي، لم يجد الوطن الذي كثيراً ما حلم به خلال عشرين عاماً قضاها مبعداً في أوروبا ثم في الولايات المتحدة، بل أشلاء دولة ينهكها الفساد والفقر والفوضى، خلافا لما احتسبه بأن انهيار النظام السوفييتي سيكون منطلقاً لبناء الدولة الروسية الجديدة، التي تعيد إلى الشعب الروسي أمجاده السابقة.

أصيب سولجنتسين بخيبة أمل كبيرة بعد عودته، فـ«البيروسترويكا» (إعادة البناء) التي انتهجها ميخائيل غورباتشوف، لم تفعل شيئاً سوى «الارتماء» السريع في أحضان الغرب، وزيادة عدد البائسين، وإضعاف مكانة روسيا في المجتمع الدولي، بدلاً من أن تقوم بعملية هدم وبناء، لإزالة التشويهات التي التصقت بالأخلاق والمثل الاشتراكية، والتقيد بمبادئ العدالة. لذلك شن عليها وعلى رائدها حملات هجائية، وكذلك على خلفه بوريس يلتسين. وكان كتابه «روسيا نحو الهاوية»، الذي صدر في مطلع الألفية الثالثة، بمثابة البيان الذي أعلن فيه يأسه المطلق من بناء «الإمبراطورية» الروسية، من دون أن يخفي نزعته القومية والدينية التي تُعدّ واحدة من أبرز مآخذ أعدائه القدامى (الشيوعيين) عليه، وغرمائه الجدد الذين فتنهم سحر الغرب.

يروي سولجنتسين أنه بعد صدور كتابه هذا طلب يلتسين شخصياً منحه وسام الدولة الأعلى، فأجابه بأنه لا يستطيع قبول منحة السلطة التي جلبت لروسيا الدمار، لا يرغب في قبول الجائزة من رئيس، بل من مجموعة خبراء ذوي كفاءة، من باحثين روس ومبدعين ومثقفين يحظون باحترام في مواقعهم. لكنه في مقابل ذلك، تفاءل بإنجازات الرئيس بوتين، ورأى أنه استردّ بعضاً مما خسرته روسيا بمحاربة الفساد، وأيقظ الدب الروسي من سباته ليزرع الرعب في قلب أميركا؟

لم يكتف سولجنتسين بفضح قسوة النظام السوفييتي السابق، ونقد النظام الجديد، بل هاجم المادية والفساد الأخلاقي للغرب أيضاً، الذي كافأه بجائزة نوبل للآداب في العام 1970. وفي خطاب شهير ألقاه في جامعة هارفارد في العام 1978، في ذروة الحرب الباردة، انتقد "الحرية الهدامة وغير المسؤولة" في الحياة الغربية، بما فيها "تدفق المعلومات المفرط والمرهق" من وسائل الإعلام. ، ورفض أي فكرة لفرض "أنموذج غربي" بدل الشيوعية في روسيا. وتساءل عن السبب الذي يجعل الأميركيين يحاصرون روسيا من الجهات الأربع قائلا: " عذبتنا الحروب كثيراً، وسواء كانت ملتهبة أم باردة، كان الأميركيون ينادون بروسيا الحرة. لقد أصبحت حرة فعلاً، فهل يريدوننا أن نستبدل جورج بوش بكارل ماركس؟». واعترف قبل سنوات بأن الغرب كان يمثّل لهم فارس الديمقراطية، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل في يوغوسلافيا، ذلك أنّ السياسة الغربية اعتمدت، في الدرجة الأولى، البراغماتية... وقال بصراحة إن «ما حصل هو نتيجة تفاهتنا». عندئذ اكتشف الغرب أن الرجل الذي جعل موسكو ترتعد هو في الواقع محافظ متشدد، متمسك بانتمائه السلافي، وغالباً ما انتقد بشدة مجتمعه الاستهلاكي.

تدور أحداث رواية سولجنتسين الأولى «يوم واحد في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي ترجمها إلى العربية منذر حلوم، وصدرت عن دار المدى (1999)، في أحد معسكرات العمل النائية في شمال كازاخستان، وتصور حياة إيفان دنيسوفيتش شوكوف، الفلاح شبه الأمي المفعم بشعور الكرامة وخبرة الحياة، الذي وجد نفسه دون ذنب في معسكر العمل الإجباري بعد فراره من الأسر الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، فعاود الالتحاق بفرقته العسكرية لمواصلة الدفاع عن وطنه، ولسذاجته أبلغ الحقيقة عن واقعة أسره، ولم يلفقها بحكاية كما فعل آخرون، فاعتُقل بتهمة التجسس لصالح الألمان، وحكم عليه بالأشغال الشاقة لعشر سنوات، لم يستبعد أن تمتد بصورة تعسفية حتى نهاية العمر. يوم واحد على غرار آلاف الأيام من حياة إيفان ومئات المعتقلين الآخرين الذين ساقتهم المصادفة التعسة إلى: النهوض قبيل انبلاج الفجر لمواصلة أعمال البناء، وشق الأرض والحجر الصلد في ظروف الشتاء القارس، الخضوع للسلطة المطلقة التي يمارسها الحرس، الإحصاء المتكرر لقطيع البشر الذين تحولوا إلى مجرد أرقام، الانتظار بذل في طابور أمام نافذة المطعم لتسلم ما يسد الرمق، هاجس الخوف من تفتيشات السلطات الأمنية المباغتة، وتبادل الأحاديث قبيل النوم لبث شجون الروح واستعادة صور الحياة البعيدة..

تعيد هذه الرواية إلى الأذهان رواية «كوخ العم توم» للكاتبة الأميركية هارييت ستاو، من حيث التشابه بين تراجيديا المعتقلين في المعسكرات الستالينية، وتراجيديا العبيد في الولايات المتحدة. وقد استمد سولجنتسين مادتها من تجربته الشخصية القاسية، ففي العام 1945، وبينما كان جندياً على الجبهة الألمانية، كتب إلى أحد أصدقائه منتقداً ستالين، معتبراً أن الحكومة السوفييتية مسؤولة أكثر من هتلر عن تبعات الحرب على الشعب السوفييتي. وقعت الرسالة في يد السلطات، فكلّفه الأمر ثماني سنوات في معسكرات الاعتقال. ولم تنشر الرواية إلا العام 1962 في مجلة "نوفي مير" السوفييتية، وذلك بعدما تدخّل الأمين العام للحزب يومذاك نيكيتا خروتشوف شخصيّاً، بهدف مقارعة «الحرس القديم» من فلول القيادة الستالينية. وقد دفع نشرها سولجنتسين إلى واجهة المشهد الأدبي العالمي، لكنّها دشّنت أيضاً حقبةً جديدةً في مسيرة الروائي الإشكالي؛ فبعد ثلاث سنوات من صدورها منعت أعماله في الاتحاد السوفييتي، وبدأت تجربته المريرة بدءاً بطرده من اتحاد الكتاب السوفييت في العام 1969، وانتهاءً بإسقاط الجنسية عنه وانتقاله إلى الغرب في العام 1974، خلال حكم بريجينيف، بتهمة الخيانة العظمى، إثر نشره روايته «أرخبيل الغولاغ» في فرنسا، حيث هرّب إليها المخطوطة سراً. وكان قد جمع وثائقها من معايشاته الشخصية وشهادات المعتقلين، واستمر في كتابتها عشر سنوات (1958- 1967) على وريقات صغيرة دفنها واحدة تلو الأخرى في حدائق أصدقائه، ولم يقرّر نشرها إلا بعدما عُثر على إحدى مساعداته مشنوقةً، وكانت قد اعترفت لجهاز "كي. جي. بي" (المخابرات السوفييتية) بالمخبأ الذي توجد فيه مخطوطة الرواية.

توصف «أرخبيل الغولاغ» بأنها عمل تاريخي أدبي أزاح الستار مرة ثانية عن معسكرات الاعتقال والعمل الإجباري تحت جهاز الغولاغ- الإدارة العليا لمعسكرات العمل الإصلاحية- التي كان يُزج بالمنشقين السياسيين فيها، ولا سيما كل من يعترض على ممارسات ستالين. ولقيت الرواية أصداءً مدويةً في العالم بأسره، وأجرى في ضوئها العديد من مفكري اليسار ومثقفيه مراجعة شاملة لمواقفهم الأيديولوجية، وأعلن بعضهم القطيعة مع الفكر الاشتراكي– الماركسي. كما اشتدت على أثرها حملات النقد القاسية.

في رواية"جناح السرطان" قدّم سولجنتسين، على شكل حكاية فلسفيّة، انساقا مختلفة للواقع الروسي من خلال مستشفى لمعالجة المرض الخبيث، أبطالها الأطباء والمرضى من لحم ودم، لكنهم رموز لحالات اجتماعية تتوزع بين الخير والشر. وقد استوحى الكاتب موضوعها من تجربته الشخصية مع المرض في أواسط الخمسينيات. ولعلها أقرب رواياته إلى واقعية القرن التاسع عشر، إذ تقدّم صورة أمينة للمجتمع الروسي بعد موت ستالين.

وفي رواية «الدائرة الأولى» يصف سولجنتسين الفترة التي قضاها في معسكر عمل خاص بالنخبة، مدرساً للرياضيات، انتهى به المطاف في معسكر جمعت فيه النخبة للاستفادة منهم في مجال البحوث. كان من بينهم اطباء وعلماء فيزياء، وقد كانوا يقومون بعملهم تحت الإكراه. في ذلك المعسكر كانت حالته نسبيا افضل، لكنه قبع في معسكرات أخرى ذات نظام بالغ الصرامة.

يقول سولجنتسين عن نفسه: "في البداية كنت شاعراً صديقاً للأشجار وللهواء وللطيور وللفلاحين الذين لا تعنيهم لعبة الزمن، لم أتغير في داخلي، حتى عندما كانت العيون الخشبية تلاحقني لدي شعور دائم بأنني ولدت هكذا لأكون صديقاً للكلمة وصديقاً للاثنين". وكان يرى أن على الأدب أن يكون صداميا: "الكاتب لا يعبث بالوردة، بل أنه يحاول أن يضع قدمين للزلزال. الأدب قوة ومقاومة. أنا لا أتكلم ككاتب روسي، وإنما ككاتب ينتمي إلى هذا الزمن. لعلنا كلنا مدعوون أن نقف على قيد أنملة من الحياة. والحياة عندي تعني أن الوعي الذي طالما شعرنا أنه أفلت من أيدينا، يطرق الباب". ويستغرب، أيضاً، كيف أن الأجيال الجديدة انفصلت هكذا عشوائياً عن ثقافة الآباء قائلاً: "إن الأبناء، الذين توافرت لديهم وسائل خارقة للاتصال والتواصل، يمكن أن يعتقدوا أن تولستوي هو اسم لنوع معين من السجائر. وإذا أصغى أحدهم إلى سمفونية شهرزاد لكورسكاف فلن تكون لديه أية فكرة عن ألف ليلة وليلة، ولا عن ذلك الشرق الذي تبدو أمسياته كما لو أنها أمسيات الجمر". ويقارن نفسه بالجيل الجديد الذي يتصف بالأمية الثقافية قائلاً: "ونحن صغار كنا نلتهم الكتب كما تلتهم الدببة طعامها، تلاحق عيوننا كل الكلمات. لم نكن نمتلئ ابداً.. حتى الآن أشعر حين لا أقرأ بأنني عبارة عن غرفة باردة وخاوية.. أشبه تماما برجل الصقيع".

سولجنتسين شيخ الكتّاب المنشقين: يريدون منا إحلال بوش محل ماركس
 
14-Aug-2008
 
العدد 39