العدد 39 - حريات
 

سوسن زايدة

تبدأ سارة خليل عملها في المزارع بالأغوار يومياً بعد رحلة شاقة. "يتم تحميلنا في (بَكَب). نكون عشر عاملات، وأكثر في بعض الأحيان. وكل هذا تحت أشعة الشمس الحارقة. وكل يوم على هذا المنوال. اليوم الذي نعطّل فيه لا نأكل. الله يعلم بالحال. في بعض الأحيان نبقى في العمل للساعة الخامسة لكي نحصل على خمسة دنانير. لا أحد يساعدني، ماذا أفعل؟".

نقلُ عشرات النساء مكومات في صناديق الشاحنات "البكبات"، كما لو كنّ متاعاً، مشهد مألوف في الأغوار، والرحلة في صندوق كهذا جزء من المعاناة، تحت شمس الأغوار الحارقة ودرجة الرطوبة المرتفعة، والطرق الزراعية الترابية الوعرة. ورعونة سائقي "البكبات" أحياناً تجعل من هذه الرحلة مخاطرة كبرى.

تصف سارة، ذات الثلاثين ربيعاً، ظروف عملها في المزارع وكيف يؤثر ذلك في صحتها وأطفالها. "عندي ضغط، وصدري يؤلمني، بعض (المعلّمين) لا يلتزمون بساعات الدوام، ويزيدونها من دون دفع أي مقابل. اليوم أُغمي عليّ في العمل من حرارة الجو وارتفاع الضغط. أثناء العمل أقلق كثيراً على أطفالي، لكنني في الصباح أكون قد جهزت لهم المصروف والطعام".

اعتادت سارة على العمل في الزراعة منذ كانت طفلة، وما زالت تعمل في تعبئة المحصول. "ساعات عملنا من السابعة صباحاً حتى الثالثة عصراً، بأجر ثلاثة دنانير يومياً. وإذا زادت ساعات العمل يكون هناك نصف دينار زيادة على الأجر".

الأغوار، التي تعدّ سلة غذاء الأردن ومصدر معظم صادراته الزراعية، تعتمد على قوة عمل مزارعات، يعمل معظمهن في القطف؛ "قطّافات"، بتعبيرهن.

"60 بالمئة من نساء غور الأردن يعملن بالزراعة"، تقول فضة الحديدي، من مؤسسة "جمعية ذات النطاقين الخيرية". "الغالبية العظمى من النساء هنا لا تسعها الدوائر الحكومية، ولا وجود لمصانع أو متاجر للبيع لتعمل بها السيدات، لذا فإنهن يتجهن إلى القطاع الزراعي في الحقول، فيستيقظن من الساعة السادسة صباحاً، وبعضهن يستمر في العمل حتى الرابعة، وبعضهن الآخر حتى الخامسة، والأجرة ليست كافية لهن". وتضيف الحديدي: "إنهن يعملن في الحَرّ، وفي ظل عدم وجود ضمان اجتماعي لهن".

"المزارعة امرأة تستحق الحياة والاحترام"، تقول فضة الحديد، فـ"الجهد الذي تبذله المزارعة لا تبذله أية موظفة على مكتب. تخيل الخطر الذي تتعرض له النساء المزارعات حينما تنقل 30 مزارعة على ظهر سيارة (البكب) في الصيف أو الشتاء، وكثيراً ما يسقط بعضهن منه بسبب العدد الكبير والازدحام في الصندوق".

عايشة تعمل في القطاف والزراعة والتعشيب بحسب الموسم، من السادسة صباحاً حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ظهراً، براتب أربعة دنانير في اليوم، يزيد إذا داومت أكثر. لكن من الصعب العمل أكثر من ذلك تحت الشمس الحارقة، تقول عايشة.

رنا، شقيقة عائشة، 25 عاماً، تعمل هي الأخرى، مقابل أربعة دنانير في اليوم فقط. "عددنا يصل إلى 10 أو أكثر أو أقل بحسب ما يطلبه المزارع. أعمل أنا والوالدة في المزرعة وأساعد عائلتي. أعمل من السادسة صباحاً حتى الحادية عشرة ظهراً. وأحياناً ساعات إضافية بأجرة إضافية، لكن الأجر يتأخر أحياناً كثيرة".

المالكون يفضّلون تشغيل مزارعات، لأن أجورهن أقل من أجور العمالة الوافدة، تقول فضة، "وهن يصبرن، فليس ضرورياً أن ييتقاضين أجرة اليوم في اليوم نفسه، بل ينتظرن حتى يقتطع المالك الإنتاج وثمنه، ومنهن من تنتظر شهراً أو شهرين حتى تتقاضى أجرتها، ومنهن من تعيل أطفالها، وبعضهن أرامل أو إن أزواجهن عاطلون عن العمل أو رواتبهم لا تجدي".

الصبر الذي تتحدث عنه فضة، يتحول عند بعض المالكين إلى تحايل على العاملات للتخلص من الدفع. تقول عايشة خليفة، 27 عاماً: "أحياناً لا يعطوننا أي أجر، ويقولون لنا إنهم لا يملكون نقوداً. بعضهم يقول: اذهبوا اشتكوا عليّ. أو أنه يختفي. ونحن لا نشتكي، لأننا لن نستفيد، ونحن الخسرانين لو اشتكينا". أحياناً يكون المالك نصاباً، أو ليس معه نقود ليدفع. "حدث هذا قبل شهر، حيث كنا نلقط الفلفل، فلم يعطنا المقاول أجرتنا لمدة شهرين، ولم يساعدنا أحد لتحصيل أجرتنا"، تقول عايشة.

فضة الدايات (أم عبد الله)، تقول إنها كانت تُحضر فتيات ليقمن بقطف الخضراوات. "كنت أعطي الواحدة 3 دنانير على عملها من السابعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهرً. الآن اختلف الوضع. أصبحن يطلبن 5 دنانير، لأن الحياة أصبحت مكلفة".

أم عبد الله تمتلك مزرعة عائلية، لكن ظروف عملها قاسية هي الأخرى. "دوامي من السابعة صباحاً حتى السابعة مساء، أزرع الفاصولياء والبصل. أقوم من الصباح بجمع البصل وتعبئته بشوالات، وكذلك البطاطا والباذنجان، أجمعه وأبعثه إلى السوق من خلال سائق، لكن أحياناً أبقى حتى الصباح المبكر عندما تكون هناك سقاية".

تنحني نساء الغور على الأرض طيلة يوم العمل، جمعاً للثمار، أو لزراعة الشتلات، أو التعشيب حولها، في ظل ظروف بالغة القسوة، فأشعة الشمس في الأغوار تبدو كما لو كانت عمودية طوال النهار، وتبلغ الحرارة في بعض الأيام أكثر من أربعين درجة، بالإضافة إلى الرطوبة الشديدة.

لا تملك عائشة ترف إجازة يوم من العمل، فاليوم الذي لا تعمل فيه لا تنال عليه أجراً. "يقف صاحب المزرعة فوق رؤوسنا يستعجلنا في العمل من دون رحمة، حتى لمجرد أن ترفع المزارعة رأسها. ضربتني الشمس ذات مرة وأنا أعمل، بقيت أسبوعين وأنا مريضة. كل العمل يؤثر علينا، على ظهورنا وأجسامنا".

"نتعب في الشمس الحارقة"، تقول رنا، "ونشكي، لكنهم لا يسمعوننا. أصابتني ضربة شمس مرتين، لكنهم لم يسعفوني. في كل المرات، حينما نظل نعمل تحت الشمس مدة طويلة نتعب بالتأكيد، وأحياناً لا يسمحون لنا بمجرد استراحة للذهاب إلى الحمام أو غسل اليدين، نريد أن يأتوا ليروا حياتنا في الغور، فنحن نتعرض للحر الشديد والمعاناة اليومية".

تصف سارة "المعلمين" الذين يشرفون على العاملات ويراقبونهن أثناء العمل. "بعضهم لا يدعنا نأخذ معنا خضراوات، في بعض الأحيان يتم تفتيشنا، وهذا يؤثر فينا جداً ويجرح مشاعرنا، نخبرهم أن لدينا أطفالاً يريدون أن يأكلوا".

تعمل القطّافات في جو تملؤه الحشرات الهائمة، ويمتلئ هواؤه برذاذ المبيدات الحشرية السامة من دون وقاية أو إشراف طبي، ومن دون تأمين صحي أو ضمان اجتماعي.

"تتعرض العاملة لخطر المبيدات الحشرية أثناء رشّها.. تستنشقها وتعود بملابسها ملوثة، فلا ترتدي كمامات ولا (أفرهولات) ولا نظارات حماية. تتلثم العاملات ويرتدين ملابسهن الخاصة بالمزرعة، لكن هذا غير كاف. هذا غير حمل الأشياء الثقيلة مثل الصناديق من الحقل للسيارة"، تقول فضة.

تعمل قطافات الأغوار في بيئة لا تتوافر فيها دُور حضانة، وإن وُجدت فالأجور الزهيدة لا تكفي لدفع تكاليفها. وبذلك لا تجد الكثير من نساء الغور بداً من اصطحاب أطفالهن معهن للبقاء إلى جوارهن تحت وهج الشمس. "أضطر لأن آخذ ابني معي ليعاني معي في الحَرّ، وأحياناً أضعه عند إحداهن بأجر، فكل جهد له ثمن.. فحينما أخرج من البيت في السادسة صباحاً وأعود في السادسة مساء، فما هو حال أطفالي ورائي. هناك تفكك أُسري"، تقول فضة. وتصف أُسراً أخرى: "يخرج فيها كل الأفراد حتى يحصلون على قُوْتهم اليومي. فهناك من تدرّس ابنها في الجامعة، وأخرى تعالج فرداً في المستشفى".

تتمنى فضة من "المسؤولين" شيئاً واحداً: "تأمين صحي مجاني للمزارعين أو المزارعات حتى نؤمّن علاج أولادنا ولا تكون الفاتورة كبيرة علينا، وخاصة مع درجات الحرارة العالية هذه". رغم أن فضة كافحت لتخريج أبناء ثلاثة من الجامعات، لكن أبناءها ما زالوا متعطلين عن العمل، وما زالت أمُّهم تتحمل الجهد الأكبر. "ربما الحقّ على المناهج، فهي غير مهيأة لتصبحَ مزارعاً، فيجب أن يُهيأ الطفل إذا أراد أن يكون مزارعاً. لذلك أنا كمزارعة سأتعب وأشقى حتى أؤمّن قوت عائلتي، والجهد الذي أبذله صباحاً سأبذل مثله في الليل حينما أصل إلى البيت فأطبخ وأغسل وأهيئ البيت، هنا جهد كبير على المرأة".

عدد العاملات في الزراعة بالأجرة يتجاوز عشرة آلاف امرأة أردنية، بحسب مديرة زراعة الأغوار، م. نجاح مصالحة. وهن عاملات عرضيات، أي يعملن على أساس موسمي حسب الطلب. ارتفع هذا الرقم منذ عام 2004، إذ كان قرابة 8,650. هذا عدا النساء غير المأجورات كالتي تساعد أمها أو زوجها. أما عدد اللواتي يُدرنَ مزارع فقليل.

تعزو مصالحة ذلك إلى "عدم توافر بديل أمام النساء في الغور، حيث نسبة الأمية مرتفعة، لذا يضطررن إلى العمل بالزراعة وتحت ظروف قاسية نسبياً، ظروف بيئية واجتماعية واقتصادية سيئة".

تشكو مصالحة "لا توجد جهة تتابع عمل السيدات العاملات في الزراعة وأوضاعهن، لكن يمكن أن يكون ذلك من خلال شركات استخدام خاصة، تُنظم رحلاتهن للمزارع، وتحديد سقف أجور معين، إضافة إلى توفير ضمان اجتماعي وتأمين صحي. وزارة العمل هي المسؤولة عن مراقبة تطبيق ذلك. في حين تتحمل وزارة الزراعة مسؤولية مراقبة تنظيم قطاع الزراعة وإدارة المزارع".

يوضح رئيس اتحاد مزارعي وادي الأردن، م. سليمان الغزاوي، أن الاتحاد يضم فقط النساء اللاتي يمتلكن أرضاً زراعية أو يحترفن الزراعة، لا العاملات في الزراعة. "على وزارة الزراعة أن تنظم قطاع الزراعة، وأن يكون هناك عمل مؤسسي، ويجب تفعيل هذا القطاع ليكون مربحاً للمُزارع، بحيث يجد أولاً فرص عمل لهؤلاء العاملات في وادي الأردن، ويؤمّن حقوقهن".

يشير الغزاوي إلى أن "عدد مالكات المزارع قليل جداً؛ في حين أن الإنتاجية في وادي الأردن تعتمد بشكل كبير على الأيدي العاملة النسائية، في عملية القطف وجمع المحصول وتغليفه.. إنهن مبدعات أكثر من الرجال".

وتعزو مصالحة الاعتماد الأساسي على الأيدي العاملة النسائية في الغور إلى "ثقافة في المجتمع الريفي ناتجة عن الفقر والأمية والبطالة، تشجع الشاب على اختيار العمل السهل و(البرستيج) الخاص مهما كان مستوى الفقر. لكن المرأة الريفية تعي واقعها المرير، والمتمثل بالاتكال عليها في إعالة الأطفال وتعرضهم لمخاطر عملها، وتعدد الزوجات".

وترى مديرة زراعة الأغوار أن الجمعيات الأهلية والتعاونية في الغور منهكة ولا تقدم الشيء الكثير، في النواحي الاجتماعية والاقتصادية على السواء.

غور الأردن.. سلّة غذاء: عاملات تحت الشمس بنظام “السُخرة”
 
14-Aug-2008
 
العدد 39