العدد 6 - ثقافي
 

إيان بوروما كاتب وأكاديمي (من أب هولندي وأم إنجليزية يهودية).أصدر نحو خمسة عشر كتاباً حول العلاقات السياسية والثقافية بين الحضارات الآسيوية والشرقية من جهة، وأوروبا وأميركا من جهة أخرى. من مؤلفاته: “الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه” “Occidentalism: the west in the eyes of Its enemies” (2004) و “مقتلة في امستردام: مصرع تيو فان غوخ وحدود التسامح” “ Murder in Amsterdam: The Death of Theo Van Gogh and the Limits of Tolerance (2006)“.

إذا كان إرفنج كريستول «وهو المؤلف اليساري السابق الذي منحه الرئيس بوش وسام الحرية في تموز 2002» عرّاب حركة المحافظين الجدد، فإن نورمان بودوريتز هو بمثابة البطريرك لهم. […]. وفي الواقع أن لدى بودوريتز تعريفا ضيقاً لحركة المحافظين الجدد. فهو يتكلم عن” الليبراليين واليساريين التائبين” والذين يشكل اليهود أغلبيتهم العظمى ممن انشقوا عن اليسار و”انضموا لليمين” في السبعينات من القرن الماضي. ويقول بودوريتز “إن هؤلاء فقط هم من يمكن اعتبارهم محافظين جدداً” .

يبدو لي أن مفتاح سياسة بودوريتز يكمن في التوق إلى السلطة، إلى الصلابة، إلى أن يكون المرء متنمّرا (Shtarker لا يكترث لأحد أو لشيء، […]ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة فحسب، بل يشمل إسرائيل أيضاً. فشارون كان متنمراً نموذجياً، ولذا حظي بالإعجاب الكبير. أما نتنياهو فهو يسعى بجد لأن يكون متنمراً. وقد وقفت الولايات المتحدة بصلابة ضد النازيين، ومن ثم ضد الشيوعيين، وهي الآن متأهبة لمواجهة الفاشية الإسلامية.

عندما يتعلق الأمر بالتوجهات، فليس من الصعب أن نفهم بودوريتز. لكن عندما يتعلق بتفاصيل الحرب، و”من هم” بالتحديد الذين يفترض بنا أن نقاتلهم، ولماذا يجب أن تكون حرباً رابعة، وما هي علاقتها بالحروب السابقة، فإن بودوريتز تتولاه الغشاوة والتشوش. […] ترى، من هم الفاشيون الإسلاميون؟ إن لدى جورج بوش جواباً يرضي بودوريتز لدرجة أنه قد كرره أكثر من مرة.”لقد رأينا صنفهم من قبل... إنهم ورثة جميع الأيدولوجيات القاتلة في القرن العشرين... وهم يسيرون على خطى الفاشية والنازية والأنظمة الشمولية.”

ذلك صحيح، لكن إلى من تعود” هم” على وجه التحديد؟ وكما يحدث عادة في خطاب المحافظين الجدد، يُستحضر برنارد لويس لكسب بعض الاحترام الفكري. ويقتبس بودوريتز تحليل لويس بشأن التأثيرات النازية والستالينية على تطور حزب البعث في الأربعينيات. لقد كانت هذه التأثيرات فاعلة بشكل كاف. إلا أن حزب البعث أسسه اشتراكيان اثنان أحدهما مسيحي وليس مسلماً. . […] وتوجد اختلافات جذرية بين الثوار الإسلاميين - نادراً ما يذكرها بودوريتز- بين السُنّة والشيعة، وبين المتمردين في جنوب شرق آسيا وطالبان في أفغانستان، وبين العصابات الإرهابية في لندن والجنجويد في دارفور. وبخلاف النظام الشيوعي السوفييتي أو حزب هتلر النازي، فإن تنظيم القاعدة عبارة عن شبكة عالمية من مجموعات لا ينتمي بعضها إلى بعض كثيراً، وهي تقلد فلسفة وطرائق بعضها عن طريق الإنترنت، لكن دون سلطة على أي دولة، ناهيك عن أي جيوش كبيرة. […] إن اعتبار هؤلاء جميعاً “فاشيين إسلاميين” وافتراض أننا نعيش مرة أخرى أحداث العام 1938 ونضع ثقتنا في الغزو العسكري بوصفه أفضل وسيلة لحماية أنفسنا، هو شكل خطير من أشكال الهستيريا.

إذاً، ما هي الاستراتيجية التي تجعل الحرب الحالية تختلف عن سابقاتها؟ هنا يقف تحليل المحافظين الجدد على أساس أكثر ثباتاً. يشير بودوريتز إلى أن الإرهاب الديني ليس نتاجاً للفقر بقدر ما هو نتاج للقمع السياسي. فطالما أن الملايين من المسلمين سيظلون قابعين تحت حكم الديكتاتوريين، سينمو الإرهاب بسرعة كبيرة. إن سياسة المحافظين الجدد التي تبنتها الإدارة الأميركية هي أن “تجفف المستنقعات” أي أن تتخلص من الإرهاب عن طريق جعل الشرق الأوسط ديمقراطياً. والحجة القائلة إن الديكتاتورية تولد الإرهاب حجة معقولة، لكن “تجفيف المستنقعات” لا يعمل في الواقع بكفاءة كما يعمل من ناحية نظرية، وذلك يعود إلى عدة أسباب، فأولاً وقبل كل شيء، إن بعض هذه المستنقعات هي حلفاء لأميركا مثل: مصر والمملكة العربية السعودية التي وعدتها الولايات المتحدة ببيعها أسلحة ومساعدات عسكرية ببلايين الدولارات. كما أن الديمقراطية ليست دائماً أفضل ترياق لمحاربة الحركات الإسلامية ؛ فإن أسلوب حماس، مثلاً، لكسب الانتخابات يعود، في جزء منه، إلى عدائها للولايات المتحدة.

وفي فترة سبقت أحداث الحادي عشر من أيلول بكثير، كانت هناك أسباب جيدة للرغبة في القضاء على صدام حسين؛ فقد أقدم على قتل أعداد كبيرة من مواطنيه الأكراد والشيعة وقام بقمع وحشي للعراقيين الآخرين. وهذا كان سبباً كافياً لأشخاص قاموا بإنجازات ديمقراطية رفيعة مثل: فاكلاف هافيل وكنعان مكية وآدم ميتشنك لدعم حرب قد تطيح به. لكن يجب على الحكومات الديمقراطية أن تكون واضحة حيال الأسباب التي دفعتها لدخول الحرب، ويجب عليها أن تخضع للمحاسبة من قبل ناخبيها، إلا أن إدارة بوش لم تستخدم حقوق الإنسان سبباً معلناً لغزو العراق، فما قيل للناخبين الأميركيين مراراً وتكراراً هو أن صدام حسين يشكل تهديداً محتملاً لأمن الولايات المتحدة، وأنه ذو علاقة بإرهابيي الحادي عشر من أيلول، ويجب “القضاء عليه” قبل أن يتمكن من استخدام الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

في تشرين الثاني 2003، زعم ديك تشيني أن العراق هي” القاعدة الجغرافية للإرهابيين الذين كانوا يعتدون علينا لسنوات عديدة، وخصوصاً أحداث الحادي عشر من أيلول”. قد يقول أحدنا إنه من التفاهة والسفاهة أن نتجادل في الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لخوض الحرب، فإزالة الطاغية المكروه سبب كاف. ومع ذلك، يخرج بودوريتز عن أسلوبه المعتاد لإثبات أن تشيني وبوش وأصحاب التفكير السليم جميعاً كانوا يؤمنون بشدة أن صدام كان متآمراً مع إرهابيي الحادي عشر من أيلول، فضلاً عن حيازته لأسلحة الدمار الشامل.

لم يكن ثمة شك في أن صدام حسين كان في وقت سابق يمتلك أسلحة كيماوية، وأنه كان مستعدا لاستخدامها. ففي العام 1988 استخدم غاز الخردل ومركبات كيماوية لقتل عدد كبير من الأكراد العراقيين في حلبجة. لكن هل كان هناك أي خطر بأن يستخدم مثل هذه الأسلحة أو حتى الأسوأ منها، وهي الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة في العام 2003؟ وهل كانت هناك أي فرصة تدل على أنه سيقوم بذلك في المستقبل القريب إن لم تشن الولايات المتحدة الحرب عليه أولا؟[…] وقد يتساءل المرء لماذا حمّل بودوريتز نفسه عناء كتابة العديد من الصفحات حول صفقات اليورانيوم المزعومة وعلاقات القاعدة، فهذا كله لا صلة له بالموضوع الذي كان مذهب بوش يسميه” تجفيف المستنقعات”. وقد كان هذا المستنقع موجوداً في العراق. لكننا ندرك الآن أن هذا المشروع لم يجعل الولايات المتحدة أو أي مكان آخر أكثر أماناً من الهجمات العنيفة التي يقوم بها الثوار الإسلاميون. وفي الواقع، فإن أحد تقارير وكالة الاستخبارات الأميركية أكد في تموز 2007 أن حرب العراق قد ساعدت القاعدة على تجنيد المزيد والحصول على دعم مالي أكبر وتقديم خبرة لا تقدر بثمن للجيل الجديد من الإرهابيين.

ويتخذ بودوريتز منحى مختلفاً، فالمشكلة لا تكمن في بوش” الرئيس العظيم” أو رمسفيلد أو تشيني أو أي أحد آخر في الإدارة الأميركية. بل أن بودوريتز على العكس مقتنع أن جرائم القتل الوحشية والأعمال الفظيعة التي ترتكب يومياً في العراق هي في الواقع “ناجمة عن الخطوات الكبيرة المبذولة في ترسيخ الديمقراطية وتوحيد البلاد في ظل نظام فيدرالي ناجح”. […] ولا يمكن إلا لرجل يعاني من عمى أيديولوجي مزمن أن يكون بمثل هذه الدرجة من فقدان الإحساس.

ومن منظور بودوريتز، إذا أراد المرء أن يلقي اللوم لا محالة بشأن النكسات في حربنا على الفاشية الإسلامية فلا يجب أن يكون اللوم على بوش، وإنما على نعوم تشومسكي وسوزان سونتاغ ونورمان ميلر وبقية أفراد العصابة الأكاديميين المنتمين إلى ”اليسار المتشدد” ولكن لماذا؟ لأنهم”تماماً مثل أسلافهم في الثلاثينيات الذين عارضوا دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية” قد انضموا الآن إلى بات بوكانان في اليمين الانعزالي. ولا يكتفون جميعهم بانتقاد إسرائيل، بل إن بودوريتز يدعي أنه يتحسس هبات قوية من معاداة السامية في الحركة الانعزالية لبوكانان. لكن حتى لو كان بودوريتز محقاً حيال عدم ثقة اليساريين بالنزعة الخيرية للولايات المتحدة وعدم ثقة اليمينيين بكل شيء أجنبي، فإن هذه الآراء لم تؤثر كثيراً عندما قرر الرئيس بوش خوض الحرب. لقد كانت أصواتهم هامشية، وبالكاد سمعت أصواتهم في الصحافة المعبرة عن الاتجاه السائد. ومع ذلك، لا ينظر بودوريتز إلى الأمر بهذه الطريقة. فبسبب تخوفه من هوسه بأمر الخونة النخبة المعادين لإسرائيل ممن يقللون من شأن القوة الأميركية، يزعم بودوريتز بقوة أن التلفزيون الأميركي قد “أغرقنا ببرامج تظهر الإسلام في صورة مشرقة”. والأسوأ من ذلك أن “وسائل الإعلام، بما فيها الصحف الكبيرة مثل نيويورك تايمز، قد أحاطت نفسها ب’ موقف حيادي’ خطير بين “أميركا وأعدائها الفاشيين الإسلاميين”. وهذا “يشير منطقياً إلى أن كلا الطرفين متساويان أخلاقياً”. إلا أن الاستثناء الوحيد، كما يقر بودوريتز، هو محطة فوكس. […]

يظهر جزء كبير من كتاب بودوريتز وكأنه نداء صادر من قلب رجل وحيد يشعر وكأن الكل قد هجره. ولا يعزى هذا فقط إلى أن اليساريين المتشددين المعادين للأميركيين واليمينيين المتشددين الانعزاليين يقللون من شأن مهمة بوش النبيلة. وحده جورج بوش وهؤلاء المخلصون له دون شروط ما يزالون صامدين. وعلاوة على ذلك فإنهم بالنسبة لبودوريتز المصدر الوحيد للحقيقة. وإليكم كيف يصف بودوريتز منتقدي بوش: “إنهم يسلمون بأن العرب و/أو المسلمين يختلفون كثيراً عن معظم الناس في أنهم يحبون حقاً الكبت والقمع والضرب والقتل الممارس ضدهم من قبل السفاحين، سواء ارتدوا بزات عسكرية أم رداء إكليريكيا”. لا شك في نزاهة اليساريين الجدد عندما يتكلمون عن نشر الديمقراطية بالقوة الأميركية. […] غير أن الغلو في الحماس يفضي إلى ابتداع أفكار فجة ومبرمجة تقسم العالم بأكمله إلى أصدقاء وأعداء، وتعتبر الحلول الوسطية واحدة من مظاهر الضعف، وترى في السياسة لغواً لا طائل تحته […]

وعلى الرغم من ذلك، يجب أن يؤخذ نورمان بودوريتز على محمل الجد لعدة أسباب. أن رودي جولياني في أثناء حملته لرئاسة الولايات المتحدة قد اتخذه مستشاراً سياسياً للشؤون الخارجية. وعلى من يظنون أن كارثة العراق قد قضت على تأثير المحافظين الجدد أن يتابعوا حملة جولياني بمزيد من الاهتمام. وما تزال آراء بودوريتز مهمة. فقد استطاع أن يجذب حلفاء في مواقع لم يتوقعها ضمن اليساريين والليبراليين السابقين. […]

لقد انقلب بودوريتز ضد اليساريين. وهو يمقت الليبراليين. وينسجم دعمه لحرب بوش مع هوسه بقوة الولايات المتحدة ومناوأته لأعدائها في الداخل والخارج ممن يحاولون التقليل من شأنها. وأحكامه تصدر عن شخص يميني أيديولوجي، ومشاركة بعض اليساريين الجدد له في بعض أحكامه هي ضرب من ضروب الغباء. كما أن قيام بعضهم بذلك باسم الليبرالية إنما ينطوي على خيانة للمبادئ التي يدافعون عنها أصلاً.

* مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس

(New York Review of Books)

المجلد 54، العدد 14. 27 أيلول 2007

الحرب العالمية الرابعة ضد "الفاشية الإسلامية" – إيان بوروما
 
13-Dec-2007
 
العدد 6