العدد 6 - ثقافي
 

حاوره: د. محمد خالد الشياب

هشام غصيب من المفكرين الذين تمحورت إشكاليتهم الفكرية، عقب هزيمة 1967، وهزيمة الدولة القطرية العربية في إنجاز أسباب التقدم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنة الفكر، وكذلك بالإشكالية التي تمحورت حول همّ أساسي، هو: كيف يمكن أن يحيا العرب في هذا الزمن؟ زمن العولمة، والقطب الواحد، والإنترنت، والذي بدأت تتحدد معالمه ابتداء من سقوط الاتحاد السوفييتي. ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وحوار الحضارات والأديان، حيث تركت هذه الوضعية أثراً على مسارات فكره من زاوية طبع أطروحاته الفكرية جعلته يحيا وضعاً قلقاً تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر؟ ماذا تقول بذلك؟.

أنطلق في هذه المسألة من معاناتي في مجابهة الحضارة الأوروبية الحديثة، فأنا نشأت في مجتمع أردني ريفي شبه بدائي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي في مرحلة تشكّل الوطن العربي الحديث ومرحلة إلحاق الأردن والوطن العربي في السوق الرأسمالية العالمية، وقد أدخلنا هذا الأمر جميعاً في مجابهة مع جوانب متنوعة من الحضارة الأوروبية الحديثة، وتعمقت هذه المجابهة عندما أتيح لي في سن مبكرة أن أذهب إلى بريطانيا من أجل إكمال دراستي الجامعية، وهنا حصلت المجابهة الفعلية التي سبق أن تلمست ملامحها في الأردن. لقد أدخلتني هذه المجابهة في أزمة فكرية ووجدانية ممضة وشعرت أنني أجابه منظومة حضارية من نوع جديد، وهي المنظومة التي تسميها الحداثة، فالحداثة بالنسبة لي هي شيء عياني عانيته وعانيت مجابهته، إنها ليست مجرد فكرة تعرفت عليها من الكتب، وإنما هو واقع زاخر عشته وعانيته، وهذا هو أساس انشغالي وأساس شعوري اليقيني بوجوده، وبالطبع فإنني لم أكتف بهذا الشعور وإنما عززته بدراسة الفكر والعلم واستطعت أن أكوّن تصوراً لهذه المنظومة الثقافية من هذه الدراسة المرتكزة إلى هذا الشعور، وأدركت أن العالم شهد ثورة ثقافية عارمة في الأربعمائة سنة الأخيرة نقلته من أفق محدود إلى أفق لا نهائي يعصف به اللاستقرار، وهذا الأفق اللانهائي هو جوهر الحداثة، وقد جاءت الحداثة بهذا المعنى في سياق انتقال المجتمع الأوروبي الغربي من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، لكن في بادئ الأمر، لم أدرك أساس هذه الثورة الثقافية العارمة، لقد شعرت في صميم ذاتي من دون أن أدرك أساسها الاجتماعي التاريخي، وعبرت عنها في بادئ الأمر بدلالات الفلسفة البرجوازية، وبالذات بالارتكاز إلى الأدب الأوروبي، ووجدت في شخصية فاوست التي عني بها الأدب الأوروبي ابتداء بمارلو ومروراً بغوته وانتهاء بتوماس مان الأداة الفكرية المناسبة لفهم ظاهرة الحداثة، وشعرت بنوع من التماهي الذاتي مع هذه الشخصية الأسطورية، وعبرت عن تناقضات الحداثة وتحديها الوجداني العميق بدلالة المحن الوجدانية التي مر بها فاوست بملحمة غوته تحديداً، ولكم شعرت بالغبطة عندما بدأت أربط هذه الشخصية وهذه الظاهرة الثقافية بالرأسمالية وباستعمال الدلالات الماركسية.

لقد جاء هذا الاكتشاف تأكيداً للحياة وإحساساً لقبول الحياة وقبول الاستمرار في عيشها. لقد كانت الماركسية بالنسبة لي مسألة حياة أو موت. لذلك عندما انهار الاتحاد السوفييتي، ارتعبت لكني ظللت قابضاً على الجمر، فالماركسية لم تكن بالنسبة لي مجرد صرعة أو موضة، ولا مصدر ارتزاق، وإنما كانت نوعاً من الخلاص والإنقاذ.

ما هي أهم ملامح الحداثة التي تتحدث عنها، وهل يمكن أن نتحدث عن حداثة عربية؟ وهل يمكن للعرب التكيف معها وامتلاك مستوياتها العميقة؟

الحداثة منظومة معقدة ومتشعبة، أحاول أن أسلط الضوء على بعض ملامحها الجوهرية، من هذه الملامح الجوهرية لانهائيتها على كل صعيد، كما أنها تتسم باكتشافين جوهريين هما: اكتشاف الطبيعة بوصفها كياناً مادياً مستقلاً، واكتشاف الإنسان بوصفه فرداً خلاّقاً وتاريخاً ومجتمعاً، فقد بدأت الحداثة بادراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان، ونجد ذلك جلياً في أبي الحداثة رينيه ديكارت، إذ إنه أول من وضع مشروعاً مادياً صرفاً لفهم الطبيعة وتفسيرها، وأول من عدّها نظاماً مادياً لا نهائياً مغلقاً أو مستقلاً تحكمه قوانين معينة، ويتحول باطنه إلى ظاهر باستمرار، كما أنه أول من أكد بجلاء محورية الذات الإنسانية المفكرة وأوليتها وكونها أساساً يقينياً في الحياة، مدشناً قاعدة الحداثة في الفكر. إذ تطورت الحداثة على هذه القاعدة وعمّقت هذين الاكتشافين ووسعت آفاقهما، ولم يكن تقبل هذين الاكتشافين بالأمر السهل، إذ أدخلت الحداثة بهذا المعنى من مفكري عصر ديكارت والعصور اللاحقة في محن روحية وجدوا من الصعوبة بمكان تخطيها. وأذكر بهذا المقام باسكال الفيلسوف والمفكر الفرنسي الذي أرعبته فكرةالطبيعة اللانهائية، وفكرة الإنسان الحر المستقل.

ويمكن القول إن العلم الطبيعي جاء تجسيداً لهذا المشروع الحداثي، وشكل محوراً أساسياً من محاوره. فالعلم الحديث ليس حيادياً بهذا المعنى، وإنما هو حداثي حتى النخاع. وأذكر في هذا السياق أن عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة هو اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة. فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لامن ملته ولا من قبيلته ولا من خالقه المزعوم. وهذه الفكرة الحداثوية الجوهرية لم يفلح عرب اليوم في استيعابها فكرياً واجتماعياً. هناك نوع من الكسل والتعب الحضاري الذي يهيمن على الإرادة العربية ويجعلها تنام على أوساخها (وتربض على هذه الأوساخ) وتهرب من تحديات الحقبة الحديثة، وهذا يفسر تمسكها بنوع ساذج من الدين، هذا التمسك يريحها ويسوغ لها هذا الكسل. علينا أن نفسر هذا الكسل وهذه الهروبية من الواقع. وبالتأكيد فهي مرتبطة، بسيادة الدولة الريعية المسنودة نفطياً، لكن علينا أن نجري مزيداً من الدراسات في سيكولوجية أمتنا وشعوبنا، حتى نتمكن من فهم هذه الظاهرة المؤلمة ولقد اقترحت آلية ثقافية للخروج من هذا المأزق أسميتها الاستغراب، وأزعم أنني عانيت هذه العملية الممضة؛ ذلك أنني جابهت كثيراً من الأفكار التي نعتبرها جنونية في ثقافتنا السائدة بعزم برغم ما شعرته من رعب في مجابهته. ولربما كان أكبر تجسيد لهذه الأفكار التي يرتعب العرب من مجابهتها هو فكر ماركس ونيتشه وفرويد. ولذلك أدعو المثقفين العرب إلى الخوض في تجربة فهم أولئك المفكرين الثلاثة بالإضافة إلى مجابهة منطويات المنهجية العلمية وما أفزرته من أفكار لا نهائية في البيولوجيا والفيزياء.

إن الاستغراب مغامرة كبرى محفوفة بالأخطار والمصاعب، لكن لا مفر منها إذا أردنا أن نعود إلى التاريخ ونساهم في صنع التاريخ والعصر.

الفئات التي حملت المشروعين العربيين القومي والماركسي هي نفسها التي تحمل المشروع الإسلاموي والحداثوي، ألا يعني بنظرك أننا نعيش ارتباكات في الحامل الاجتماعي للحداثة؟

يمكن أن نبدأ بالنفاذ إلى جوهر المشكلة السياسية العربية، إذا قارنا وضعنا بأوضاع أمم محيطية أخرى، كالأمم الصينية والفيتنامية وأميركا اللاتينية. ولنركز على أوجه الاختلاف.

تلاحظ أولاً أن الوطن العربي تميّز في أن حركة التحرر الوطني العربي تشظّت مبكراً إلى فصلين رئيسيين: الفصيل القومي والفصيل الشيوعي، ودخل هذان الفصيلان في تناحر مميت. بالمقابل فإن الشيوعيين هم الذين تضرروا في الأمم المحيطية الأخرى، بمعنى أن هذا الانقسام لم يحدث لهذه الأمم وأن حركة تحرر القومي هناك لم تعان هذا الانفصام الذي عانيناه نحن، فلم يكن الهم القومي معزولاً عن الهم القومي الاجتماعي، وكان هذا من أسباب النجاح الباهر الذي حققته الحركات الشيوعية القومية في تلك الأمم، وأحد أسباب الإخفاق التاريخي الذي مُنيت به حركة التحرر القومي العربي.

لا شك أن حركة التحرر القومي العربية قد تعرضت إلى هجمة شرسة جداً من جانب الإمبريالية، لكن الأمم الأخرى عانت من هجمة أكبر، ومع ذلك أفلحت في دحرها.

إذاً علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا أخفقنا ونجح غيرنا؟

هذا السؤال طرحه بعمق ياسين الحافظ وأجاب عنه بعمق أيضاً، ولعل أحد أسباب هذا الإخفاق العربي هو هذا التاريخ الطويل من الحكم الاستبدادي الشرقي السلجوقي ثم العثماني، وحتى المملوكي، وتلاحظ أن غياب الدولة المركزية العربية لمدة طويلة سهل على الإمبريالية تجزئة الوطن العربي، في حين أن وجود دولة صينية متماسكة في مطلع القرن العشرين ساهم في الحفاظ على وحدة الصين ومن ثم تحقيق التقدم فيها. كذلك علينا أن نتذكر أن دخول الوطن العربي في الدائرة الرأسمالية جاء متأخراً مقارنة مع أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وعليه فقد قطعت هذه الأمم شوطاً أكبر بكثير في مقارعة الرأسمالية من الأمة العربية. وأضيف إلى ذلك العنصر الثقافي، ففي حين أن ثقافة أميركا اللاتينية هي في أساسها ثقافة أوروبية محدثة، حدثتها آليات الرأسمالية الأوروبية نفسها، فإن لدينا مشكلاً ثقافياً أعمق بكثير، إذ لدينا إرث ثقافي غني يعود إلى الوراء بآلاف السنين، ولكنه سلاح ذو حدين، فيه الكثير من المعوقات التحديثية. ولذلك فإن المشكلة الثقافية في الوطن العربي تكتسب أهمية استثنائية من الصعب ان نجد له مثيلاً لدى كثير من الأمم الأخرى. وهذا هو أحد أسباب إخفاق الحركات النهضوية العربية، فقد تلهت بالسياسة عن الثقافة وأخفقت في الغوص عميقاً في هذا الإشكال، واعتبرت ذلك ترفاً لا يليق بالسياسي المحترف. وعندما كنا نخاطب الأحزاب السياسية العربية، بضرورة إيلاء هذه المشكلة الاهتمام اللازم وبضرورة تحديث الوعي علمياً. كانوا يردون باستخفاف علينا، ويعتبرون مطلبنا تعبيراً عن هم نخبوي لا يمت بصلة لهموم الجماهير الشعبية، ويسخرون من ثم من محاولاتنا. أما الآن فلم يعد من الممكن أن يستمر حالهم على ما هو عليه، وعليهم أن يراجعوا أفكارهم البالية إذا أرادوا أن يعـودوا إلى الحلبة السياسيـة نفسها.

غصيب: لدينا إرث ثقافي غني، لكنه سلاح ذو حدين – حاوره د.محمد خالد الشياب
 
13-Dec-2007
 
العدد 6