العدد 39 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

تعين عليها أن تعبر النهر مرات ومرات.

الرحلة التي قطعتها السيدة مرثا سليم في طريقها عبر الأردن من عمان، إلى حمى أهلها في قرية الزبابدة في قضاء جنين، لتضع مولودها البكر أسمى خضر العام 1952، كانت المرة الأولى التي سبقت الوعي.. وحين حان أوانه، تعين عليها أن تناضل لتقطع كثيراً من الأنهار، وتكون سبّاقة إلى الضفاف الأخرى.

والدها حنا خضر كان مثقفاً وذا عقلية متفتحة، عمل مترجماً في فلسطين، والأردن.. استقر في عمان العام 1947.

تميزت كبرى فتيات العائلة بقوة شخصيتها وجرأتها على الحياة. وبسبب من مرض إحدى أخواتها واضطرار الأم إلى السفر الى القدس لعلاجها، أدخلت أسمى مدرسة راهبات مار يوسف الداخلية بنابلس، حيث أتيح لها أن تعتمد أكثر فأكثر على نفسها.

«أبو أسمى.. وأم أسمى» اللقب الذي عرف به والداها، أبدل بـ«أبي سمير وأم سمير» غداة مجيء أخيها وهي لم تجاوز الحادية عشرة من عمرها. «كانت المرة الأولى التي اكتشف بها مرارة التمييز بين الرجل والمرأة». تشرح مستذكرة أن والدها أدرك الأمر، واستطاع أن يعادل المسألة بقوله «البنت عندي بألف شب».. غير أن التمييز بقي ماثلاً في ذهنها في طريقة معاملة الأقارب والجيران لأولادهم وبناتهم.

لطالما قطعت الفتاة الهيفاء، ذات السمرة البادية، طلعة المصدار في طريقها إلى بيتها في جبل النظيف، في ايابها من مدرستها «دير اللاتين»، فخورة بلعبها دور «المحامية» في لعبة مدرسية.. غير أن حلم الروب الأسود كان ما زال بعيداً.

بدأ اهتمامها بالعمل العام إبان العدوان الإسرائيلي على قرية السموع في 13 تشرين الثاني/نوفمبر العام 1966م، حيث شاركت ابنة الأربعة عشر عاماً في تظاهرة لشجب العدوان.

أحاديث حرب حزيران وقصص الهزيمة لنازحين سكنوا «حارة المؤن» التي انشأتها الأونروا في جبل النظيف، كانت أهم ذكريات مراهقتها وتفتح وعيها على الظلم الذي أحاق بالناس والوطن، فانخرطت في أنشطة الإسعاف ومشروع «كنزة الفدائي» الذي جمعت وحاكت فيه نساء الصوف لدعم حركة المقاومة الفلسطينية الوليدة.

في تلك المرحلة انتمت للتنظيمات الطلابية، وصارت عضواً في اللجنة التنفيذية لاتحاد طلبة الضفتين. غير أنها تؤكد أنها لم تنتم الى أي تنظيم سياسي. لكنها تقر بأنها كانت مقربة من التنظيمات اليسارية.

أصاب المرض والدها وأقعده عن العمل مطلع السبعينيات، ورغم حصولها على التوجيهي، إلاّ أنها لم تستطع أن تتابع دراستها بسبب ضيق ذات اليد.

عملت في العديد من الأعمال بهدف المساهمة في إعالة أسرتها، تارة في شركة الدخان برأس العين، برفقة زميلات لها، في طي باكيتات دخان «كمال»، وأخرى معلمة في روضة.

لكن تبرع عم وخال لها بتدريسها وضعها على الدرب لتحقيق حلمها الكبير بدراسة الحقوق في جامعة دمشق العام 1972.

قبيل عيد ميلاد ذلك العام ودمشق تتزين بقناديل العيد، تلقت رسالة من والدها: «أنني أتصورك دائما محامية تدافعين عن الحق بجرأة، قوية الحجة، تفحمين الخصوم وتنتصرين للمظلوم، تخدمين الوطن عن وعي وإدراك وتستنهضين الهمم بفصاحة وقوة اقناع».

تأثير الرسالة، على بساطتها، ما زال ماثلاً في المرأة التي آلت إليها.

وقد عاندتها الظروف مجدداً، فقفلت عائدة إلى عمان قبل تقديمها الامتحان النهائي.

غداة عملها بالتدريس في مدرسة دير اللاتين، لاحظت محلاً معروضاً للإيجار، فاقترحت على عائلتها أن تستأجره وتستعين به على شظف الحياة، ودخلت في معركة معهم حتى نجحت في اقناعهم بالمشروع.

«افتتاح نوفوتيه «سمر» الذي أدارته والدتي كان قراراً صائباً، ففي العام الذي تلا 1978، توفي والدي وصارت العائلة بلا أي مصدر دخل عدا تقاعد أبي».

أنهت دراستها للحقوق العام 1977 لكنها لم تستطع أن تتفرغ للتدريب الذي كان من دون مقابل. وفي العام نفسه التقت بشقيق الروح، عادل دعيبس، وكان من أقاربها، لكن الزواج لم يكن تقليدياً بل «بين بين». ولهما ثلاث بنات وولد.

فضلاً عن مسؤوليتها الزوجية، مارست التدريس ومتابعة شؤون النوفوتيه، إضافة إلى العمل في محل ديكور بجبل عمان بدوام جزئي، وإعطاء دروس خصوصية لأولاد الجيران.

بسبب من آرائها، تركت العمل في مدرسة راهبات الوردية والتحقت بجريدة «الأخبار» التي أسسها فؤاد النمري، كموظفة علاقات عامة وكاتبة مقالة، إلى أن مكنها حصول زوجها على فرصة عمل في السعودية من التفرغ للتدريب في مكتب المحامي عيسى مدلل. وعملت به لاحقاً، قبل أن تستقل بمكتب افتتحته في جبل الحسين العام 1984، بعد أن «لاحظت أن التمييز يلاحقها بسبب نسبة القضاة وزملائها الفضل في كسب القضايا الى أستاذها الذي تجله وتعده من خيرة المحامين، واستبعادهم أن تكون محامية- امرأة وراء النجاحات التي حققتها في القضايا التي ترافعت بها».

أكدت أسمى خضر جدارتها كمحامية مستقلة بعد أن تولت قضايا عديدة منها: قضايا سياسية، وحريات عامة.

مع عودة الديمقراطية العام 1989 آزرت المرشحة للانتخابات، توجان فيصل، في القضايا التي رفعت ضدها بتهمة الردة، على خلفية آراء لها، وعبرت عن موقفها من قضية توجان في لقاء مع الملك الراحل الحسين، فضلاً عن آراء أخرى ذات صلة بالمناخ الديمقراطي.

شاركت مطلع التسعينيات في اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني، «اعتقد أنها كانت بداية العلاقة بيني كمواطنة وناشطة في الحياة العامة والدولة». تعقب أسمى خضر.

انتخبت في العام 1993 رئيسة لاتحاد المرأة الأردنية لغاية العام 1997، وأسست في العام 1998 مجموعة القانون من أجل حقوق الإنسان «ميزان».

اتصال هاتفي من الرئيس المكلف، فيصل الفايز، ذات مساء تشريني من العام 2003 فتح الباب أمامها كوزيرة دولة، وناطقة رسمية باسم الحكومة، ثم وزيرة للثقافة مكلفة بشؤون الإعلام في تعديل لاحق على الحكومة. «قبلت المشاركة لأنني اطلعت على كتاب التكليف الذي كان صادراً حينها، وتضمن العديد من القضايا التي اهتم بها كـ المرأة وحقوق الانسان، والتنمية الاجتماعية، والسياسية». عادت الى المنصب نفسه في حكومة عدنان بدران حتى 3/7 / 2005.

«منصب الناطق الرسمي لم يكن سهلاً بالنسبة لي، خصوصاً أنه لم تكن هناك وزارتا ثقافة، وإعلام وتعين عليَّ أن أملأ الفراغ»

«أعتقد ان الخطة التي وضعت لإعادة هيكلة الإعلام وإلغاء الوزارة كانت متكاملة، وما زلت أرى أن تنفيذها سيؤدي الى استقلالية وسائل الإعلام وتعزيز اللامركزية، وفي الوقت نفسه ما زالت الحاجة قائمة لتطوير التشريعات لتكفل تنفيذ الرؤية الملكية التي تبنتها الحكومة آنذاك. وأنا مع هذه الرؤية رغم صعوبتها، وضد إعادة الوزارة».

تشغل حالياً منصب الأمين العام للجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة، وهي المنسقة العامة للمعهد الدولي لتضامن النساء.

يصفها مقرب منها «بأنها سيدة عصامية، صنعت نفسها بنفسها وطاقة هائلة». فيما يرى خصم لها أنها «لم تبد تميزاً في عملها كناطقة باسم الحكومة، ومالت حيث الريح تميل».

الآن.. حيث ما زال يستهويها التسوق في سوق الخضار القديم بوسط البلد. وحين يرتد طرفها إلى طرقات المصدار والنظيف، لا شك يسرقها الحنين، إنما بكثير من الاعتزاز بما حققته ابنة تلك الأحياء الفقيرة.

أسمى خضر: أن تأخذ الحياة بقوة
 
14-Aug-2008
 
العدد 39