العدد 38 - أردني
 

محمد عدي الريماوي

لم يصدق أحمد مصطفى يوماًَ ما أن المدرسة هي بيته الثاني، كما يقول خبراء التربية، فهو يعتبر المسجد ملاذه في كل وقت، لذا فما إن يخرج من مدرسته حتى يبدأ بالاستعداد للذهاب إلى المسجد ليجلس الى شيخه بعد صلاة العصر، فهو يعتقد أنه سيتعلم الشيء الكثير منه.

"في المسجد تعلمنا أن الخطأ يبقى خطأ. في مجتمعنا الآن أصبحت الأخطاء عادية، ولم يعد ينظر أحد باستغراب لأي شيء مشين تفعله، وهذا ما أوصلنا على ما نحن عليه." يقول أحمد الذي أمضى سنوات طويلة، وهو "يداوم" في المسجد في صورة شبه يومية؛ من صلاة العصر وحتى العشاء. "أعتبر شيخي في الجامع علامة في حياتي، فهو درّسني وبنى شخصيتي بأفضل طريقة، فأنا أعتبره الأب الروحي بالنسبة لي". أما معلموه وأساتذته، فهو يرى أن بعضهم مخلص وأنهم يعملون بجد، إلا أنهم "لا يظهرون لدينا بمظهر القدوة".

للمسجد مكانة عالية عند كثير من شباب هذه الأيام، وقد وازى ذلك تراجع دور المدرسة التي لم تعد تلعب دورا مهما في بناء شخصية الطالب، وذلك في ظل انخفاض واضح لمستوى التعليم وانخفاض آخر في المستوى العلمي للمدرس.

مصعب يبدو متحمسا جدا "للشيوخ" الذين ينظمون حلقات الدراسة في المسجد، فضلاً عن أنشطة أخرى، فهو يقول إن ما يميز الشيوخ في المسجد هو أنهم مستعدون للتضحية بوقتهم من أجل تلاميذهم، "بكون الشيخ عندو شغل ومسؤوليات، ولكنه يقعد معنا فترة طويلة، ويتابعنا حتى لما نطلع من الجامع". يمضي مصعب الكثير من وقته في المسجد حيث تنظم أنشطة متنوعة مثل كرة القدم والرحلات، كما أنه يرى أن هنالك مستوى أفضل للأخلاق، فلا مكان للشتائم والكلام النابي. "بدأت التربية من البيت، واستكملت في الجامع، ما شعرت في يوم إن المدرسة ساعدت في بناء شخصيتي". تخرج مصعب حديثاً من كلية الهندسة، ويقول إن ما تعلمه في المسجد قد ساعده كثيراً في تعامله مع مشاكله ومع الناس.

يعتبر الخبير التربوي حسني عايش إن المسجد يدخل في سياق ما يسمى بـ"المدرسة الموازية" التي تضم أيضاً التلفزيون والإنترنت، وهذه المدرسة تعمل إلى جانب المدرسة النظامية، على تشكيل وبناء شخصية الطالب، وهو يرى أن التربية الدينية في الأردن قوية للغاية، لكن أغلب الجماعات الدينية تعمل على تعليم الأطفال مبدأ التسامح في حين يجب تعويدهم على مبدأ السماحة، ويشرح الفرق بين التعبيرين بأن التسامح هو حالة لحظية، تسمح للشخص بالتسامح الآن وأن يكون له حق العقاب في الغد، أما السماحة فهي التعامل دائماً مع الأطياف الأخرى باحترام وتقدير.

"المسجد ركن أساسي في التعليم، لكنه ليس بديلاً عن المدرسة." يقول حسن أبو شويمة، إمام مسجد الزميلي، الذي ينظم في كل صيف دورات لتحفيظ القرآن فضلاً عن أنشطة متعددة لأطفال من فئات اجتماعية مختلفة. "لا شك أن هنالك دوراً كبيرا للمسجد في صقل الشخصية ، ومساعدة الطلبة على بناء أنفسهم، لكن المسؤولية تقع على المدارس التي يجب أن تعلمهم أساسيات الانتماء والمواطنة." وهو يؤكد انه بد من التعاون بين المسجد والمدرسة، لتخريج شباب قادرين على تحمل مسؤولية أنفسهم.

"بحسهم كلهم زي إخواني الصغار، لازم أدير بالي على كل واحد فيهم." هذا ما يقوله ماهر، الذي يقوم بتدريس مجموعة من الأطفال في إحدى مساجد عمان الغربية، فهو يحفظهم القرآن وينظم لهم نشاطات ترفيهية متعددة. وهو يدرس الهندسة الكهربائية في إحدى الجامعات. يعلم ماهر بأن "عمله" كشيخ حلقة يعرضه لبعض المشاكل، ويأخذ الكثير من وقته وجهده، إلا أنه يشعر بالرضا عن نفسه وعما يفعله: "نعمل وفق منهاج معين، يستمر طوال السنة وليس خلال العطلة الصيفية فقط. هناك تدريس لأكثر من مجال في التربية الدينية؛ الفقه والسيرة النبوية والأحكام العقدية، ونحن نعقد ورشات عمل لتطوير شخصيات الدارسين لدينا".

تتراوح أعمار المنتسبين لهذه الحلقات بين 12 و17 سنة، وعادة ما يستمر "التزام" هؤلاء بهذه الحلقات حتى التحاقهم بالجامعة، حيث تتفرع بعدها اهتماماتهم وتطلعاتهم. يقول ماهر إن المواد الدينية في المناهج المدرسية غير كافية لتعلم قواعد الدين، فيما التعليم في المسجد أكثر خصوصية وأكثر تحديداً، لكنها تساعد في تشكيل قاعدة للدراسة الدينية المتوسعة في المسجد. وهو يؤكد أن هناك الكثير من المدارس التي تتعاون معهم عند طلب استخدام المرافق مثل الملاعب والمسابح، وعادة ما يتم التعامل مع مدارس معروفة بتوجهاتها الدينية.

" ما في تجديد، حلو الواحد يتعلم قرآن، بس في كتير ضغط،" يقول محمد حسين الذي يملك رأياً مغايرا، عن الحلقة التي كان يتردد إليها، فقد وجد أن زملاءه يفتقدون الطموحات الكبرى، وأن أفكارهم باتت محدودة. "ما في طلعات، غير عالمسبح أو نلعب كرة، ممكن نعمل نشاطات تانية، بدون ما تكون حرام. بس الشيوخ ما بسمعوا كتير لآرائنا". ورغم أن محمد أمضى أكثر من أربع سنوات وهو يتردد على المسجد، فإنه منذ دخوله إلى الجامعة، رأى عالماً جديداً ومختلفاً، وبدأت زياراته تقل إلى المسجد.

يتبع أغلبية هؤلاء الدارسين لجماعة الإخوان المسلمين، التي تعتبر المساجد القاعدة الأساسية لنشاطها الهادف إلى إقامة مجتمع إسلامي. تنشط بعض الحركات الأخرى في المساجد، لكن بدرجة أقل؛ مثل الجماعة السلفية التي تختص بمناهج خاصة بها، تركز في الغالب على حفظ القرآن، وعلى الحديث في المسائل السياسية والجهادية، وتنشط في مساجد معينة في ضواحي متفرقة من عمان، ولا تختلط كثيراً بالجماعات الأخرى، لعدم توافقها مع مبادئهم الأساسية. هناك جماعة التبليغ والدعوة، التي تنشط أكثر في الزرقاء والرصيفة، وتعتبر هذه الجماعة المساجد نقطة انطلاقها، لذا فإنها تعمل أكثر خارجها، فتنتقل بين البيوت لتدعو بطريقة هادئة إلى الالتزام بتعاليم الدين.. والمقصود أن هذه الأحزاب بدأت تشكل مدارس لها، توازي في عملها المدارس النظامية، وتنجح أكثر منها بسبب التنظيم والتعامل السلس مع الطلاب، ما أرسى التزاماً وانتماءً عند الطلبة لهذه المدارس أكثر من التزامهم بمدارسهم الأصلية.

قضايا مثل الانتماء والمواطنة والهوية الوطنية والتثقيف بالقيم الوطنية والإنسانية لا وجود لها في حلقات المساجد، فهذا يدخل في حقل السياسة الشائك الذي لا يجرؤ أحد على دخوله، لأنها لا تجد لها مكاناً في الثقافة التي يجري تدريسها، والتي تعد الفرد ليكون شخصا تقيا ومتدينا وليس شخصاً عصري الثقافة، فالانتماء هنا للدين فقط، وليس للمجتمعات وللدول وحدودها التي تعتبر "مصطنعة".

باتت الظروف والبيئة المتوافرة في المساجد أفضل بكثير منها في المدارس، فالافتقار إلى الأساليب التربوية الحديثة، وانخفاض العائد المادي للمدرس، قلل من القيمة المعنوية للمدرس ، وربما لا يعود ذلك إلى المعلمين أو الطلبة بل إلى النظام التعليمي الذي أخذ من أساليب التعليم الحديثة قشورها وأفرغها من مضمونها، فتهمش دور المعلم والطالب معا، وتراجعت الثقافة الوطنية، فتقدم المسجد ليملأ الفراغ الناجم عن تراجع دور المدرسة، وتقدم "الشيخ" ليملأ الفراغ الناجم عن تراجع دور المعلم. ففي النهاية، المساجد تخرج شيوخاً لا مواطنين.

**

الصلاة وراء يحيى فقط

"ياي .. بدي أروح أصلي بالكالوتي عشان يحيى حوا بصلي فيهم". حماسها يثير الظن أنها ذاهبة لتقابل نجمها المفضل، أو المغني الذي تستمع له دائماً، ولكنها كانت ذاهبة للصلاة وراء إمام مسجد. حاولت أن أخبرها بأن العبرة ليست بمن يصلي هناك، وإنما في العبادة نفسها.. فكان ردها: "أنا أصلاً ما بصلي، غير وراء يحيى". فاستغربت مجدداً من أنها قالت "يحيى" هكذا من دون ألقاب.

لمع نجم الشيخ يحيى حوا منذ أن بدأ يؤم الناس في مسجد الكالوتي في الرابية مع بداية العقد الحالي، واليوم يشهد المسجد ازدحاماً شديداً، يتحول إلى ازدحام مربك لحركة السير في رمضان، عند صلاة التراويح، فينشط رجال شرطة السير في تنظيم حركة السيارات. امضى الشيخ يحيى حوا ثلاثة أعوام في أوائل القرن الجديد، في الامامة في مسجد الكالوتي، وبدأ وقتها التوافد على هذا المسجد، ثم ما لبثت أن انتشرت شهرته في أقاصي عمان.

ثم بدأ حوا رحلة طويلة حول العالم، بدءا من سورية وحتى كندا، قبل أن يعود عام 2006 ليؤم الناس في مسجد عائشة في عبدون، الذي شهد أيضاً ازدحاماً كبيراً، ليصل، في نهاية المطاف، إلى مجال الإنشاد الديني. وتحول حوا إلى «نجم» يتتبع المريدون أخباره، ويسألون عنه في جلسات المساجد، ويتناقل طلاب المدارس أناشيده وأدعيته عبر أجهزتهم الخلوية.

يقف حوا نموذجا لـ"الشيخ النجم"، وهو نسق انتشر في الوطن العربي عموما، كما انتشر عندنا في الأردن في السنوات الخمس الأخيرة. فقد أصبح من المألوف النظر إلى بعض رجال الدين بوصفهم نجوما، وتتسابق المساجد في "حجزهم" ليقوموا بإلقاء المواعظ فيها،

وخصوصاً في بعض ليالي رمضان، التي تشهد اقبالاً كبيراً على هؤلاء الشيوخ. لكن لأنهم نجوم، أصبحت رؤيتهم وحضور ومجالسهم أهم مما يقولونه.

مدارس موازية: الشيخ يتقدم على المدرس والثقافة الوطنية الغائب الأكبر
 
07-Aug-2008
 
العدد 38