العدد 37 - ثقافي
 

لم يكن المشاركون في المخيم الإبداعي الذي نظمته وزارة الثقافة في العقبة في أيار 2008، يتوقعون أن تبلغ الجرأة بأحد "الشعراء" أن يلقي على أسماعهم قصيدةً نسبها لنفسه، فيما يعلم كثيرٌ منهم أن صاحب القصيدة شاعر آخر، ما يزال حياً يسعى، وله حضوره في المشهد الثقافي.

اعتلى بشار الشريدة المنصّةَ، وشنف آذان الحضور بقصيدته "النهر" مهدياً إياها إلى "الأصيلة المعنقية"، مردفاً أن الفنان كاظم الساهر سيغنّيها قريباً. بعد انتهائه من إلقائها، عزم بعض المشاركين في المخيم على مكاشفته، وإعلامه بمعرفتهم أن القصيدة ليست له، وأنها نُشرت في مجموعة الشاعر راشد عيسى "ما أقل حبيبتي" الصادرة بدعم من وزارة الثقافة، في العام 2002. لكن طبيعة المناسبة لم تتح حديثاً من هذا القبيل، فكان التوافق على نسيان الأمر، واعتبار ما حدث إعجاباً على نحو ما، وإن يكن شاذاً، بقصيدة عيسى.

ما حدث لاحقاً أثار حفيظة الذين رأوا في ما حدث في المخيم الإبداعي "سهواً"، أو تصرفاً بريئاً يمكن تبريره. فقد صدر كتاب شعري للشريدة بعنوان "حمام الزاجل" عن دار بنان أبو عيد للنشر والتوزيع (2008)، متضمناً القصيدة نفسها المنشورة في كتاب عيسى قبل سنوات ستّ، مع تعديلين شكليين، لا يمكن لوجودهما أن ينفي واقعة "الانتحال"، الأول: الإهداء المشار إليه آنفاً، والثاني إضافة خمس كلمات (فقط) إلى القصيدة التي يبلغ عدد كلماتها الأصلية 113 كلمة. وهما تعديلان يبدوان كجزء صغير من وُريقة توت يراد بها تغطية عورةً كبيرة.. لكن هيهات.

الشاعر "المسروق" راشد عيسى، في اتصال هاتفي أجرته "ے" معه، بدا مذهولاً وهو يكتشف الواقعة، لكنه ما انفك يبحث عن أعذار لزميله و"صديقه" (بحسب تعبيره)، الذي أهداه مجموعته "حمام الزاجل" مؤخراً. "لستُ أدري، هل أُعجب الشريدة بقصيدتي فكتبها ووضعها بين أوراقه، ثم نسي أنها لي، أو اعتقد لاحقاً أنها له، فضمّها إلى كتابه؛ أم إنه فعل ذلك عن قصد"، يقول عيسى الذي كان تعرض لغير حادثة سرقة "أدبية"، من بينها ما فعله معه الشاعر السعودي محمد الثبيتي الذي نشر قصيدة في مجلة "قوافل" السعودية مطلع التسعينيات، بدا فيها سطوٌ لا مجال لإنكاره على قصيدة عيسى المسماة "الصديق-الذات"، وإن يكن مقدار هذا السطو أقل مقارنةً بما حدث مع الشريدة. إذ كان سطو الثبيتي على الأجواء والثيمة والبحر والقافية، بحسب الكاتب محمد سلام جميعان، فيما تعدى "سطو" الشريدة ذلك، لينقل القصيدة بحذافيرها، مجتهداً بإضافته التي لا يمكن لها أن تغطّي الشمس بغربال مثقوب!

يرغب عيسى في الاستماع إلى ردّ الشريدة إن كان لديه ما يقوله. وهو وفقاً لما أخبر "ے" به، لا يفكر القيام بأي إجراء قانوني إزاء هذه القضية، مكتفياً بالتأكيد أنه تربطه بالشريدة صداقة قديمة، يرغب في المحافظة عليها. "كنت أتمنى لو أخبرني بما ينوي القيام به، أو أن يطلب مني إذناً بإعادة نشرها"، هذا ما اختتم به عيسى كلامه بقدر من الأسى.

الناقد محمد عبد الله القواسمة يقول إنه أصبح من المألوف أن يسمع المرء بين الحين والآخر عن سرقة أفكار قيمة، أو أبحاث أو دراسات علمية، أو السطو على كتب ذات قيمة أو غير ذات قيمة، فتنسب إلى غير أصحابها. كما نقرأ عن رسائل وأطاريح جامعية جرى تحريفها وتزويرها. لكن وجه الغرابة أن نسمع عن أعمال إبداعية في القصة والشعر يؤتى بها محرّفة أو تقترب من الاكتمال لتنسب إلى غير مبدعيها.

يقرّ القواسمة أن العرب عرفوا أنواعاً من السرقات الأدبية؛ في ما يسمى الآن «التناص»، وأنهم قالوا: «قد يقع الحافر على الحافر»، وقال شاعرهم: «هل غادر الشعراء من متردم»، لكنهم لم يقفوا على هذا النوع من السرقة الذي لا يقع فيه الحافر على الحافر، ولا تسرق فيه المعاني فحسب، بل تقع فيه الحوافر على الحوافر ويُسرق النص كاملاً، ويكتفى بتغيير فعل هنا وحرف أو اسم هناك..

ويتابع: "غاب عن صاحبنا أنّ هذا العمل المنافي لروح المبدع، يعدّ مخالفاً لقانون حماية حق المؤلف»، داعياً المبدعين والمثقفين إلى شجب مثل هذه الفعلة.

يوضح المحامي غالب شنيكات أن بإمكان أي كاتب رفع دعوى قضائية على من يسطو على نتاجه، وفي حال أقرت المحكمة حدوث عملية السطو، فإن المشتكى عليه يُحكم بغرامة تصل إلى 6000 دينار، وقد يصدر قرار بحبسه، كما أن لصاحب النتاج الأصلي المطالبة بالتعويض عن أي أضرار مادية أو معنوية تلحق به، فضلاً عن إمكانية مصادرة جميع النسخ التي تم طبعها من الكتاب الذي تضمن النتاج المسروق، وفقاً لقانون حق المؤلف الأردني.

من جانبه، يشير جميعان إلى مفارقة تتمثل في أن ظاهرة السرقات الأدبية تفشّت بشكل كبير في زمن أُقرت فيه قوانين الملكية الفكرية وحماية حق المؤلف. ويربط ذلك بازدياد عدد الباحثين عن الشهرة، وتعدد وسائط النشر إلكترونياً وورقياً، ما يجعل النص الأدبي متاحاً لعدد كبير من المتلقين الذين قد تسوّل نفسُ أحدهم إليه أن يسطو على نصٍّ ليس له.

يرى جميعان أن الاصطلاحات المستخدمة في النقد الأدبي الحديث، تواطأت على مفهوم السرقة الأدبية بتبنّي مصطلح "التناص" بدلاً عنه. مضيفاً أن راشد عيسى تعرض لواقعات "سطو" أخرى في السابق، وأنه (جميعان) تناول بعضها في كتاباته بالأدلة القاطعة. "إنه أمر مؤسف أن تتم السرقة وبهذا الوضوح"، يقول جميعان، مستدركاً: "قد يعجب شاعر بقصيدة شاعر آخر، لكن هذا لا يبيح له أن يختلسها". وهو يشبّه ذلك بمحاولة أحدهم خطف فتاة جميلة من حضن صاحبها، لمجرد إعجاب الخاطف بها.

يعدّ جميعان قيام الشريدة بإعادة نشر القصيدة في كتابه، نوعاً من استغباء القارئ، ورهاناً من طرفه على أن أحداً لا يتابع أو لا يتذكّر. "لو اقتصر الأمر على إلقاء القصيدة شفاهياً في مناسبة ما، لكان أخفّ مصيبة"، يقول جميعان داعياً الهيئات الثقافية للقيام بخطوات إجرائية رادعة للحد من هذه الظاهرة، ما يجعل من يسْتَحلون نتاج غيرهم ويرغبون في نسبته لأنفسهم، يترددون في ارتكاب هذه الفعلة.

**

نص قصيدة "النهر" كما جاءت في ديوان راشد عيسى (ص 76-80)، وإضافات بشار الشريدة عليها موضوعة بين قوسين:

"قبلك العمر دمع نهر

قديم

خانه الماء والحصى

والمجرى

نائمٌ في التراب يبحثُ

عني

وأنا عنهُ في دمي

أتحرَّى

مَن ترى أحرجَ الترابَ

ليصحو

ما الذي دلّه ليوقظَ

نهرا؟

أهو الحبُّ

أرجعَ القلبَ طفلا

وأعاد الغروبَ في الروح

فجرا؟

(أورقيني فما سواكِ مفرّا)

سَوْسنيني فما سواك

أريجٌ

أشعليني فقد عشقتُكِ

جمرا

وابذريني بحقل صدركِ

قمحاً

وارسميني على جبينكِ

طيرا

لكِ عمري أهديه عربون

حبّي

ليت عمري يكفي لعينيك

مهرا

فإذا متُّ فلتغفري لي

كثيراً

واجعلي لي ما بين نهديك

قبرا

ليس غيري أحقَّ

مني بقبرٍ

بين نهديكِ يجعل الموتَ

شعرا

أسمعُ النبضَ من فؤادك

موسيقى وأجرعُ الماءَ

خمرا (وسُكرا)

أتسامى وأرتقي في التجلّي

كرذاذ الندى

وأزدادُ طهرا

هو ذا الموتُ كم يكون جميلاً

لستِ تدرين إنما أنا

أدرى".

شاعران وقصيدة واحدة: “النهر”.. وقائع انتحال معلَن
 
31-Jul-2008
 
العدد 37