العدد 37 - أردني
 

السجل - خاص

بهدوء لا يعكس الحياة الصاخبة الغنية بالأحداث التي عاشها، رحل فائق وراد، المناضل والبرلماني الفلسطيني/ الأردني قبل أيام.

وبدا رحيل فائق وراد في فلسطين، التي شهدت ميلاده في قرية بيتين القريبة من نابلس، وكأنه استكمال لدورة حياة بدأت قبل اثنين وثمانين عاما في تلك القرية الصغيرة، والتي منها انطلق ليعيش حياته الصاخبة تلك ليعود إليها محاطا بالجماهير التي ناضل من أجلها زهاء ستين عاما، ناله خلالها من التكريم والتعذيب والتشرد والتخفي ما نال جيلا بأكمله، وكان فائق وراد واحدا من نماذجه الكبيرة.

ربما كان تداخل العلاقة الأردنية الفلسطينية هي أكثر ما ميز حياة فائق وراد، فهو انضم في بواكير شبابه لعصبة التحرر الوطني الفلسطيني، التي كانت التنظيم الشيوعي لعرب فلسطين في مطلع الأربعينيات، وبقي يناضل في صفوفه حتى مطلع الخمسينيات حين تحول مناضلو الحزب في الضفة الغربية إلى مواطنين أردنيين بعد انضمام الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية في إطار المملكة الأردنية الهاشمية. وفي هذا الإطار اندمجت عصبة التحرر الوطني الفلسطيني، مع حلقات ماركسية أردنية كانت تعمل في الضفة الشرقية، مكونين الحزب الشيوعي الأردني. وكان فائق وراد إلى جانب فؤاد نصار وعبد العزيز العطي ورشدي شاهين وفهمي السلفيتي من بين مؤسسي الحزب الذي سرعان ما بدأ يلعب دورا مهما في الحركتين السياسية والنقابية في الأردن.

تحت راية الحزب الشيوعي الأردني، ناضل فائق وراد مع رفاقه بلا هوادة من أجل التحرر السياسي والاجتماعي وضد الظلم والاستغلال ولنشر أفكار الاشتراكية وقيم العدالة والتقدم في إطار من الاستنارة الفكرية؛ نضال أوصله قبة البرلمان مرة والسجن مرارا، ومن موقعه تحت القبة، وفي موقفه داخل السجن كان وراد مناضلا صلبا وقائدا فذا.

ففي العام 1956، وكان وراد لا يتعدى الثلاثين من عمره، فاز بمقعد في البرلمان الأردني في الانتخابات التشريعية التي أجريت في ذلك العام، وهو فوز شاركه إياه اثنان آخران من رفاقه هما يعقوب زيادين، إبن مدينة الكرك الذي فاز بمقعده عن مدينة القدس، وعبد القادر الصالح عن مدينة نابلس، وكان الفائزون قد رشحوا أنفسهم على قوائم الجبهة الوطنية في الأردن، والتي كانت واجهة للحزب الشيوعي الأردني في تلك السنوات العاصفة.

لكن وراد لم يهنأ كثيرا بموقعه النيابي، فلم تمض سوى أشهر حتى كان يقبع في السجن بعد تعليق الدستور وإعلان الأحكام العرفية في نيسان من العام 1957، ومثلما كان فائق وراد قائدا في الشارع، أصبح قائدا في السجن الذي اكتظ بالنزلاء من الشيوعيين وأعضاء ومناصري الأحزاب الأخرى.

وانتهت رحلة الألم تلك لفائق وراد ورفاقه في العام 1965، بعد أن أعلنت حكومة وصفي التل عفوا عاما، فعاد وراد إلى قريته، ليبدأ رحلة نضال جديدة بلغت ذروتها المأسوية في حزيران من العام 1967، باحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان.

ومثلما كان وراد مناضلا صلبا ضد الاستعمار والاستغلال كان مناضلا صلبا ضد الاحتلال الذي لم يمهله طويلا، فكان من أوائل من أبعدوا عن الضفة الغربية إلى عمان، حيث التقى ثانية مع رفاقه ليبدأو مرحلة جديدة من النضال تداخل فيه ما هو اجتماعي بما هو سياسي وما هو أردني بما هو فلسطيني. وخلال هذه الفترة أصبح فائق وراد عضوا في المجلس المركزي الفلسطيني ممثلا لقوات الأنصار الفدائية التي أسسها الحزب الشيوعي عام 1970.

وفي العام 1976 يرحل فؤاد نصار، القائد التاريخي للحزب، فينتخب وراد أمينا عاما له في فترة حرجة تمكن خلالها من أن يقود الحزب في مسيرة صبعة مليئة بالتضحيات. واستمرت قيادة "أبو محمد" هو الاسم الذي عرف به فائق وراد للحزب، حتى بعد أن أصيب بجلطة شلت يده ورجله. ثم حان أوان التنحي عن قيادة الحزب، وخاصة بعدة أن أعاد توحيده في أعقاب بعض الانقسامات التي ألمت به، فغادر حزبا موحدا وقويا مثلما كان في السابق.

وفي العام 1993، وعلى إثر اتفاقات أوسلو تمكن فائق وراد من العودة إلى فلسطين، بعد إبعاد دام ستة عشر عاما، فعاد إلى قريته وبلده، ولكنه لم يتوقف عن النضال؛ من خلال عضويته في المجلس المركزي الفلسطيني وفي حزب الشعب الفلسطيني الذي انتقل إلى صفوفه بعد عودته من الأردن، حيث ترك في الحياة السياسة الأردنية أثرا لا يمكن أن ينسى.

في مذكراته الصادرة في رام الله عام 2005 ضمن منشورات حزب الشعب الفلسطيني، يقول وراد: "لم يخطر ببالي وأـنا طالب في الكلية الرشيدية أن أكون ما كنت عليه، أو أن أختط لحياتي كما صرت فعلا، لم يخطر ببالي أن أنشغل بالهموم العامة، أو أن أتحول في يوم من الأيام إلى مدافع عن الناس الأقل حظا، لكنني كنت أنفر من الظلم وأشعر بأنه يستفزني تماما."

ربما كانت هذه الجملة هي المفتاح لفهم الرحيل الهاديء لرجل وجد نفسه منذ وعيه الذي تفتح على ثورة 1936 الفلسطينية، في خضم الأحداث فعاش حياة عاصفة لم يخترها، بل هي التي اختارته.

**

نعي زميل سابق

نعى البرلمان الأردني الراحل فائق وراد الذي كان عضوا في البرلمان قبل أكثر من خمسين عاما، وهو ربما كان زميلا لآباء بعض البرلمانيين الحاليين.

البرلمان، كما علمت ے، لم ينتبه إلى وفاة عضو سابق فيه، إلا بعد أن أشار إلى الأمر النائب ممدوح العبادي، والذي كان بدوره قد تلقى اتصالا هاتفيا من أحد رفاق وراد السابقين يبلغه فيه برحيل وراد الذي نعي بوصفه نائبا سابقا في البرلمان.

**

الحزب، النيابة، الحكومة

يروي فائق وراد، في مذكراته، أنه لدى خروجه من السجن بعد ثماني سنوات، فوجيء بالحكومة تسلمه مجموع رواتبه التي كانت مستحقة له بوصفه نائبا في البرلمان منذ لحظة اعتقاله في نيسان 1957 وحتى لحظة الحكم عليه بالسجن في تشرين الثاني من العام ذاته. كان الراتب الشهري للنائب آنذاك نحو 65 دينارا، فكان المبلغ كبيرا بحسابات تلك الأيام. يقول وراد "لأنني دخلت البرلمان باسم الحزب، سلمت المبلغ كله للحزب دون أن أستبقي لي قرشا واحدا."

يضيف وراد أنه شعر بعد خروجه من السجن بأنه قد جان وقت الزواج، "فقد بلغت من العمر ثمانية وثلاثين عاما، رأيت فيه الكثير من اضطرا الحياة وتقلباتها، وعندئذ، تبرع الحزب لي بمبلغ مئة وخمسين دينارا، لتغطية تكاليف الزواج، وكان مبلغا لا يكفي، وكان لابد من تلقي المساعدة من الأقارب والأهل والأصدقاء"

**

فائق وراد..

وداعا!

إسحق الخطيب

أكان لمثلك أن يموت، وفي مثل هذا الوقت بالذات، يا رفيق؟

أكان لمثل هذه الشخصية الفذة أن ترحل عن ساحة النضال في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها القضية الفلسطينية؛ تراجع عربي، وقهر إسرائيلي، وانقلاب حمساوي، وانقسام فلسطيني؟

أكان لمثل هذه الكوكبة الشيوعية أن تتواصل في الرحيل، بدءا بفؤاد نصار وفهمي السلفيتي ورشدي شاهين وبشير البرغوثي، وسليمان النجاب؛ ويأتي دورك الآن في العطاء الذي لم تبخل به يوما؟

إن تاريخك الناصع هو تاريخ حزبك الذي أسهمت فيه بكل شرف حتى آخر رمق من حياتك الحافلة، منذ انخراطك في عصبة التحرر الوطني الفلسطينية، فالحزب الشيوعي الأردني، وحزب الشعب الفلسطيني، وكذلك في الساحتين البرلمانيتين الأردنية والفلسطينية، وما رافق ذلك من نضال علني وسري، وسجون ومعتقلات وتعذيب، بلغت في إحداها محاولة خنق حتى الموت في الجفر، لولا ركلة بسطار أحد الجنود الذي تحلى بالمسؤولية فأنقذك من بين يدي زميله المطبقتين عليك بحقد وشدة.

إن شعبك بعماله وفلاحيه ومثقفيه، ظل هاجسك الأول والأخير، وموضع تفكيرك وشغلك الشاغل على مدى عمرك كله، ولن ينسى لك حزبك وشعبك ما قدمته لهما من جهد وفكر.

المجد لك يا رفيق، في حياتك وفي وفاتك، والعزاء كل العزاء لزوجتك ورفيقة دربك، ولابنتيك الطيبتين، ولكل الشيوعيين الأردنيين والفلسطينيين، الذين فقدوا فيك إنسانا غاليا وقائدا بارزا.

فائق وراد: نهاية هادئة لحياة عاصفة
 
31-Jul-2008
 
العدد 37