العدد 37 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

البداية كانت من الحصن حيث رأى واصف عازر النور العام 1936، وفي الطريق إليها ومنها، لطالما سرح بخياله إلى سبعين عاما ونيف انقضت، مذ شد الفتى مربوع القامة والزاخر بالأماني والطموح الرحال إلى ما صار إليه.

والده يعقوب، عمل مقاولا في فلسطين وحين جاء إلى عمان، نهاية الثلاثينيات، تولى بضع مقاولات في وقت عز فيه المقاولون، فالمهنة لم تكن معروفة آنذاك.

درس عازر الابتدائية في مدرسة الكنيسة البروتستانتية في بلدته، وانتقل بعد عامين إلى مدرسة الحكومة، ثم أكمل دراسته الثانوية في المدرسة الهاشمية بإربد حيث تعلق بفكر حزب البعث بعد أن أسرته شخصية المرحوم عبد الكريم خريس، مدرس مادة التاريخ.

كان من ضمن ما حمله في زاد رحلته بحثا عن عمل في عمان، غداة انهي المترك دون أن يكمل الصف الرابع ثانوي لتفوقه، منشورات البعث وخطابات ميشيل عفلق وصلاح البيطار. فقد انتمى للحزب.

مثل الفتى ابن السابعة عشرة في وزارة المالية طالبا مقابلة الوزير سليمان السكر، وكان له ما أراد، فلم تكن مقابلة الوزراء صعبة تلك الأيام!

سأله الوزير يروزه: شو بدك يا شب؟

أجابه غير هياب: بدي اشتغل !

حدق الوزير إليه مليا، لكنه قطع عليه الحديث قائلا باعتداد: أنا معي مترك!

وجهه الوزير إلى ديوان الموظفين ليقدم طلباً، لكنه بقي مسمرا في مكانه يريد وظيفة، ما اضطر معاليه إلى استدعاء عسكري ليوصله إلى الديوان. " أحسست أنا المعتز والمفتخر بشهادة المترك بأنها بلا قيمة فانتابني الإحباط، لكنني قدمت طلبا وقفلت عائدا إلى بلدتي مكسور الخاطر". يستذكر عازر.

إقامته في مسقط رأسه لم تطل، فقد عين بوظيفة كاتب في الوزارة.

استأجر غرفة واحدة بثلاثة دنانير في الشهر في حي "المصاروة" بجبل عمان، وتصادف أن عرض عليه احد زملائه، صايل التل، أن يبادله وظيفته، وكان يعمل في دائرة الإحصاءات العامة، فوافق لأنها قريبة من مسكنه.

شارك في كل التظاهرات التي اندلعت في سنوات العصف في الخمسينات وأكد التزامه الحزبي.

يعزو إلى دراسته في المدرسة البروتستانتية تعلمه اللغة الانجليزية، التي واظب على تطويرها عبر قراءة القصص والروايات، ما مكنه من التواصل مع موظف انجليزي في السفارة البريطانية في بيروت، يدعى بورتر، كان يقوم بتقدير حسابات الدخل القومي الأردني. طلب من عازر الذي لم يكن يعرف ما هو "الدخل القومي" أن يساعدهم في جمع المعلومات.

مده احد أساتذة الجامعة الأميركية العرب المرافقين لبورتر بكتيب أنجزته الجامعة حول الدخل القومي، قرأه رغم صعوبة لغته. وحين عاد بورتر في العامين التاليين اكتشف أن عازر بات "يعرف بالشغلة" فاشركه معه في العمل.

حين أنشيء قسم الدخل القومي في "الإحصاءات" عين عازر رئيساً له.

يذكر لمديره سعيد الدجاني تحفيزه له على إكمال دراسته، فانتسب لكلية الحقوق بجامعة دمشق وحاز البكالوريوس العام 1962.

بعد عودة قصيرة إلى عمان ابتعث إلى الولايات المتحدة لدراسة الماجستير في الاقتصاد. وجدها فرصة مناسبة للزواج، فقد كان فقيراً وغير قادر على إقامة عرس وفتح بيت، وحمل عروسه معه إلى بلاد العم سام.

لم ينه دراسة الماجستير رغم أنه لم يتبق على إنهائها سوى ثلاث ساعات دراسية، فقد تم استدعاؤه من قبل مدير الإحصاءات الجديد على عجل، وقوبلت محاولة أستاذه لإرجاء عودته إلى الأردن بالرفض.

شهد العام 1966 انقسام البعث، وتجريد حملة أمنية على بعثيي الأردن، دخل معها عازر وقيادات أخرى السجن، غير أنه على خلاف آخرين يخجلون أن يعترفوا ، يقر بأن خروجهم من السجن جاء بعد توقيعهم جميعا على استنكار وتبرؤ من الحزب.

درس الماجستير في الجامعة الأميركية ببيروت بعد وساطات لفك حجز جواز سفره. وذهب بعدها إلى العراق بمعية الجامعة العربية كخبير في الإحصاء الصناعي.

عين العام 1973 لمدة يوم واحد في البنك العربي مديرا لدائرة الأبحاث الاقتصادية، وقطع ولي العهد آنذاك الأمير الحسن عليه استمراره في عمله، فقد عينه في الجمعية العلمية الملكية.

مطلع العام 1976 جاء أميناً عاماً للمجلس الأعلى للتخطيط، لكن الراتب كان أقل من رابته السابق فطلب الاستقالة.

أسس نهاية السبعينيات مع وهيب الشاعر مؤسسة للدراسات والأبحاث وتطبيقات الكمبيوتر. لكنه قفل عائدا إلى الوظيفة الحكومية مديراً لصندوق التقاعد الذي صار المؤسسة الأردنية للاستثمار.

حاول تقديم استقالته بسبب وظيفة في مؤسسة مالية خاصة كانت تتشكل أيامها، لكن رئيس الحكومة مضر بدران هدد بإلغاء ترخيص تلك المؤسسة إذا لم يلتحق بعمله الجديد مديرا لشركة الفوسفات. فامتثل واضعا شروطه، وعمل بها عقدا من الزمان.

قي 1992 عين مديرا لبنك الإعمال الذي اندمج مع البنك الأهلي الأردني وصار مديرا له العام 1997.

نشط سياسيا منذ إقرار قانون الأحزاب العام 1993، وأسس وآخرين حزب "الوحدويون الأحرار" الذي اندمج مع حزبين آخرين في "الحزب الوحدوي العربي الديمقراطي"- (وعد) ثم اندمج مع ثمانية أحزاب وسطية أخرى في الحزب الوطني الدستوري.

اتصال هاتفي من فارس النابلسي العام 2000 أعاده إلى الحكومة مجددا، نقل له فيه رغبة علي أبو الراغب بمشاركته في حكومته . سأل عازر: إذا للصناعة والتجارة أقبل! فأجابه النابلسي: وإذا التخطيط شو رأيك؟ فقال: لا. وزارة التخطيط هي وزارة "اللاشيء" ولست من الراكضين وراء وزارات.

لم يدر في خلد "أبو خالد" أن أحد أصدقائه، محمد الحلايقة، كان مصرا على الصناعة والتجارة، لكنه أفاده من حيث لا يحتسب فقد صار الحلايقة نائبا للرئيس.

على طائرة أبو الراغب التي كسرت الحصار على العراق استذكر عازر موقفه الرافض أصلا لمشاركة الأردن في الحصار والداعي إلى عدم الالتزام بقرار مجلس الأمن، انطلاقا من أن الأردن بلد متضرر من الحصار. غير أن احتلال العراق في العام التالي شكل صدمة له.

من آرائه أن الخصصخة بالطريقة التي جرت بها أساءت إلى الاقتصاد الوطني، وهو لا يتردد بنعت ما جرى بأنه جريمة.

يخشى على الاقتصاد إذا ما واصل النفط ارتفاعه، ويعتبر أن كثيرا من ارتفاعات الأسعار غير مبررة ويعزوها إلى السياسات الحكومية التراكمية.

كثيراً ما ينحو باللائمة على أمانة عمان التي شطبت بتوسعها الأراضي الزراعية فضلا عن تحديد عدد طوابق البناء الذي ساهم في التمدد الأفقي ورفع أسعار الأراضي إرضاء لمتنفذين، وفق عازر.

يستذكر أحيانا شجرة ضخمة على الطريق بين إربد وجرش تدعى بالعامية شجرة "المنوة" أي "شجرة الأماني"، تم قطعها عند إقامة الاوتوستراد، على غرار آلاف الأشجار التي تم قطعها، دون أن يخطر ببال مصمميه أنه يمكن الاستدارة عنها وتركها لأحلام وأماني الناس. عندها يزفر زفرة حرة قائلا: للأسف.. كل سياساتنا معادية للاخضرار!

واصف عازر: بعثي عتيق يتصالح مع التاريخ
 
31-Jul-2008
 
العدد 37